«أراد الله للإسلام أن يكون ديناً، وأراد به الناس أن يكون سياسة؛ والدين عام إنساني شامل، أما السياسة فهي قاصرة محدودة، قبلية محلية ومؤقتة. وقصر الدين على السياسية قصر له على نطاق ضيق وإقليم خاص وجماعة معينة ووقت بذاته.
الدين يستشرف في الإنسان أرقى ما فيه وأسمى ما يمكن أن يصل إليه؛ والسياسة تستثير فيه أحط ما يمكن أن ينزل إليه وأدنى ما يمكن أن يهبط فيه، وممارسة السياسة باسم الدين أو مباشرة الدين بأسلوب السياسة، يحوّله إلى حروب لا تنتهي وتحزُّبات لا تتوقف وصراعات لا تخمد وأتون لا يهمد، فضلاً على أنها تحصر الغايات في المناصب وتخلط الأهداف بالمغانم وتفسد الضمائر بالعروض. لكل أولئك فإنّ تسييس الدين أو تديين السياسة لا يكون إلاً عملاً من أعمال الفجّار الأشرار أو عملاً من أعمال الجهّال غير المبصرين، لأنه يضع الانتهازية عنواناً من الدين، ويقدم للظلم تبريراً من الآيات، ويعطي للجشع اسماً من الشريعة، ويضفي على الانحراف هالة من الإيمان، ويجعل سفك الدماء ظلماً وعدواناً، وعملاً من أعمال الجهاد .....» نعم إنه الإسلام السياسي الذي سال وما زال يسيل الكثير من المداد والسجال بين الأنام... ولكن رغم حساسية الموضوع وخطورته، فقلّما تجد كتابات وازنة في الموضوع... فمن تفحّصها لم يجدها خاضعة لميزان الشروط العلمية الأكاديمية، فهي إما جزئية أو موسمية على خلفية الأحداث التي تفرض نفسها على المشهد السياسي العربي؛ كما أنها تتسم في أغلب الأحيان بالخفة وبالنمطية في أحيان أخرى.... وفي سياق هذا الفقر العلمي البحثي، الذي يمكن أن تعتمده مراكز بحثية ومؤسسات دولية مختصة أو جامعات عريقة أو أصحاب القرار أو أي متتبع بصفة عامة، سعدت أيما سعادة عندما قرأت كتاب السراب الأخير للدكتور جمال سند السويدي الذي سيصدر بعد أسابيع من الآن... والدكتور جمال هو واحد من أصحاب الفكر الثاقب والبديهة الاستشرافية والاستراتيجية، وحقق في حراكه الثقافي العربي والإسلامي والدولي زاداً وفيراً من المؤلّفات والإنجازات الفكرية والعلمية والحضارية والعملية والإنسانية تؤود بحمله وزارات... والكتاب في نظري المتواضع هو مما ستتداوله الأمم والأجيال وستشدّ إليه الركائب والرحال، وستسمو إلى معرفته السوقة والأغفال وسيتساوى في فهمه العلماء والجهّال... والكتاب تنمو فيه الأقوال بالحجج والشواهد ويضرب فيه الأمثال... ويتسع للدول فيها النطاق والمجال وفي باطن الكتاب نظر وتحقيق، وتعليل للمجتمعات الحقيقية ومبادئه دقيقة وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لهذا أصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعدّ في علومها وخليق.
وإنّ المختصين في مجال الإسلام السياسي لم يوافوا الموضوع حقه بعلم ودراية، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال، ولم يراعوها ولا رفضوا ترهات الأحاديث ولا دفعوها، فالتحقيق قليل، وطرف التنقيح في الغالب كليل، والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل، والتقليد عريق في الآدميين وسليل، والتطفل على الفنون عريض طويل، ومرعى الجهل بين الأنام وخيم وبيل، والحق لا يقاوم سلطانه، والباطل يقذف بشهاب النظر شيطانه، والناقل إنما هو يملي وينقل، والبصيرة تنقد الصحيح إذا تمقل، والعلم يجلو لها صفحات القلوب ويصقل.
وكتاب السراب استوفى علاج الموضوع وأنار مشكاته للمستبصرين وأذكى سراجه، وأوضح بين العلوم طريقه ومنهاجه، وأوسع في فضاء المعارف نطاقه وأدار سياجه.
وفي الجامعات الغربية، غالباً عندما ندرس فيها ينتقدنا زملاؤنا بغياب كتب محكمة وذات مصداقية تعتمد المناهج الدقيقة ومكتوبة من دولنا، وهاته حقيقة وكارثة عظمى، خاصة في مواضيع تشغل الجميع وهو موضوع الإسلام السياسي، والكتاب السراب سيغطي لا محالة هاته الفجوة العميقة، وأملي أن يترجم عند إصداره إلى العديد من لغات العالم...
ومما يزيد كاتب الكتاب قيمة أنه بعيد عن «عقدة المثقف العربي» الذي عندما يكتب في الإسلام السياسي، فهناك ازدواجية ملحوظة عنده وبخاصة الدارسين والعاملين في البلدان المتقدمة صناعياً، فإنهم عندما يتحدثون عن الوطن العربي فإنهم يتحولون إلى شخصيات غير متلائمة مع مجتمعات المنشأ المتخلفة، فيقعون في أزمة شخصية، وغالباً ما تؤدي تلك الحالة بالمتغربين إلى رفض مجتمعاتهم... إنّ الألم والغضب المرافقين لتلك النزعة يضخمان في النفوس مكانة الذهنيات والمسالك وخطورتها، إلى درجة تقذف بأولئك المثقفين نحو هوة المغالاة... إلا أن طرح تصوراتهم على الغير للتبني وتحقيرهم للذات الجماعية لا تخدم برامجهم أو غاياتهم الإصلاحية، كما أنها ليست في صالح أحد. وانتشار مثل هاته النظريات، مدهش حقاً في العقود الخمسة الماضية، على الرغم من أنها خاطئة علمياً وخطيرة سياسياً.
كما أن هناك منهجية ذكية اتبعها الدكتور جمال في مؤلفه، وهي أنّ الحقيقة المطلقة في العلوم الإنسانية غير موجودة، وأنّ من يدعون الحقيقة المطلقة في تبنّيهم للإسلام السياسي لا يخالفون فقط المعقول في بناء الدول والمجتمعات، وإنماً أيضاً في مجال العلوم الإنسانية بما فيها العلوم السياسية المقارنة، وبذلك فإنّ رد كاتب السراب على المتنطعين من أهل الإسلام السياسي له قيمة مضمونية وعلمية ممنهجة.
فنظرية المعرفة في العلوم السياسية - وكل العلوم الاجتماعية -، هي تدور كلها على مجاوزة الحد أو الخروج عن الضبط والتحكم، ويمكن أن نستحضر هنا مفاهيم الإبستمولوجي الأمريكي ذوي الأصول الألمانية كارل بوبر، حيث إنّ نظرية المعرفة عنده يجب أن تكون موضوعية ومؤقتة، كما أنّ الحقيقة الفكرية والعلمية شيء يمكن الاقتراب منه رويداً رويداً من دون أن نتمكن من الوصول إليه نهائياً؛ فكل نظرية علمية يمكن أن تفند بمعنى أننا يمكن أن نقوم بالتحقق منها وقبولها أو دحضها، والغلو يكون هنا عندما يظن الباحث أن ما توصل إليه من نتيجة أو نتائج في مجال تخصصه، سواء في العلاقات الدولية أو العلوم الإدارية أو السوسيولوجية السياسية أو النظرية السياسية، وهي المجالات الأربعة للعلوم السياسية، هي الحقيقة الدائمة، وهو الصدق بعينه، ولا يمكن لنظرية أن تجود بنتيجة مضادة، ففي هاته الحالة لن ينمو ولن يتطور أي علم ولن تتقدم البشرية لأنّ أي علم إنما نخوض فيه لتحقيق غاية محددة وهو التقدم، ومنطق المعرفة الموضوعية يمثل فعلاً نقداً مضاداً للدوغمائية، وهاته قاعدة في كل العلوم، وهذا الذي يجب أن يعيه حراس الغلو الذين يدعون الحقيقة المطلقة...
فالمنهجية إذن عند الدكتور جمال في كتابه الأخير السراب هي منهجية رياضية علمية ذات مقصدين فهي تشرح مثلاً بسهولة ظاهرة الغلو في الدين عند الداعشيين والقاعديين وتأثيراتها، كما أنها تفند بطريقة غير مباشرة الغلو في مناهج العلوم الإنسانية. فكما أنّ الانحراف العلمي والغلو في التعصب للنظرية أو لمدرسة معينة وتقديس النتائج هي أمور مخالفة لمنهج العلم الصحيح، فالانحراف والغلو في الدين معد ومؤثر سلباً وهو عين الضلال الشديد والهوى المبطل...
والكتاب في ضوء طبيعة موضوعه والهدف من تأليفه، يغلب عليه «المنهج الوصفي التحليلي» في التناول، وجاءت المعالجة البحثية من خلال تمهيد ومقدمة وسبعة فصول وخاتمة، ليبني الكاتب موقفاً فكرياً شمولياً للموضوع، ولينتج عقلاً استراتيجياً سياسياً عربياً حداثياً، هو قابل لأن يتداخل ويتفاعل نظرياً وعملياً مع المعضلات السياسية الداخلية والخارجية وقضايا الدولة والمجتمع، فيقدم خلالها معرفة منهجية، يساهم بها في ترشيد التوجيه والممارسة: ممارسة علمية التغيير والتقدم...