سأنقل القارئ في هاته المقالة إلى واحة بعيدة عن ويلات الحروب، وإلى أناس مدادهم مروءة عربية، وبريقهم هي شمس العرب الحقيقية، التي تفهم الدين الإسلامي على حقيقته، وبناء الحضارة على حقيقتها؛
والجمال منهم فتان وهم حماة الضاد وسدنتها ورعاتها وأمراء العقل والسماحة والسلام وبناء الأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك، وهم فرسان ميادين قبول الآخر وقمة في التواضع، وحبذا لو أن الملوثة عقولهم اليوم، الذين يفضلون يد العصا والإرهاب على التسامح وقبول الآخر، يقتدون بسيرتهم ويعون أن الإسلام هو دين الحب والسماحة والإخاء.... وأعني في هاته المقالة سيدي عباس الجراري والأستاذ خليل عيلبوني.
بيني وبين عباس الجراري وصلة الأخوة الصادقة، ووشيجة الوطنية الصافية، والكلمة الراقية، ومحتد الشهامة الأصيلة في قواسم العلم والانتماء الثقافي والتربية الأسرية... عباس الجراري، كما سبق وأن كتبت عنه هو نهر من العلم المتدفق، ورمز من رموز العطاء الفكري والأدبي، ومورد عذب لكل متعطش إلى المعرفة والثقافة بمختلف فروعها. وهو عالم يشرف المغرب يحق أن يوضع اسمه ضمن جهابذة العلماء الكبار الذين سجلوا أسماءهم بحروف من نور في سجل التأليف والتنقيب والترحال ومكارم الأخلاق؛ وإذا كان مما صنع لمساهمة سيدي عباس الجراري- أطال الله عمره- في ميادين الفكر والعلم والعمل الدؤوب فرادتها ونوعيتها ما انطوت عليه ثقافته وذكاؤه من موسوعة وثراء عزت لها النظائر -مغربيا وعالميا- فإن مما صنع لها قراراتها وصدقها التزام العالم الجليل قضايا الوطن والأمة، فغدا صاحب مشروع بأتم معنى الكلمة، وهو من شجرة طيبة، شجرة العلم والفكر، أصلها ثابت وفروعها في السماء جنت منه البشرية أكثر من 50 تأليفا، ووالدي أطال الله في عمره، الدكتور ادريس عزوزي وهو من علماء القرويين، كان دائما يشيد بوالده المرحوم عبدالله الجراري وابنه عباس في البيت وأنا صغير السن إلى أن تقوت علاقتي بسيدي عباس وبعائلته علاقة الابن تجاه والده الروحي. فهو حبيب الجميع فذ عاشق لتراث أمتنا، مثابر على إحياء هذا التراث والمحافظة عليه بكل الإخلاص والتفاني.
زارني هو وزوجته الأستاذة حميدة الصايغ في بيتي في فاس بمعية زوجتي الدكتورة أسماء العلوي وولدينا عثمان وجنة حفظهما الله وحفظ الله كل أبناء المسلمين، وهذا تواضع من العلماء الكبار.. وقضينا معهم أياما هي أفضل أيام العمر نتحدث عن المذاهب والشعر والتاريخ والأدب والفقه والتفسير، فرأيته كما هو ذاك الجوهري الذي يزن الدر بالقيراط في سبيل صوغ حلى عربية عالمية تزين جيد الزمان، وبعد عودتهما إلى الرباط جاد علي سيدي عباس بهاته القصيدة:
فاسٌ لَعَمْري عَلى البُلدانِ تَزْدانُ
في طَيِّها كُلُّ ما يَسبي وسلوانُ
إِن قالَ سَاكِنها فيهَا مَرَاتِعُهُ
وفي ثَراها لَهُ زَهْرٌ وَرِيحَانُ
وفي السَّواقي الزُّلالُ العَذبُ مَشربُهُ
يَشفي العَليل ويرْوَى مِنهُ ظَمْآنُ
وَفي أَزِقَّتِها عِطْرٌ يُؤرِّجُهَا
وَفي مَنازِلِها حُورٌ وَوِلْدانُ
وَفي جَوامِعِها عِلْمٌ ومَوعِظَةٌ
وَفي صَوامِعِها ذِكرٌ وَإيمَانُ
وَفي مَدافِنِها أَعْلامُ مَعْرِفَةٍ
وَفي مَتاجِرِها دُرٌّ ومُرجَانُ
فَاسٌ بِهذا خَيْرُ جَوهَرةٍ
تُرَصَّعُ الوَطَن الغَالي لها شَانُ
أَقولُ: دَعْني مِنْ ذا إِنَّ لي هَدَفًا
أَهْفو إِلَيْهِ وَإنِّي مِنْهُ نَشْوانُ
إِني مَشوقٌ إلى أَهْلي أَزُورُهُمُ
لَدَيَّ في حُبِّهِمْ مَعنى وَعُنوانُ
فَلَسْتُ أَسْلو بها إلا بِرِفْقَتِهِمْ
فَهُم على هَامِها فخَرٌ وتِيجَانُ
هُمُ الصَّحْبُ عِندي في مَرابِعِها
إِن عَزَّ مَن يُصْطَفى فيها وَخِلاَّنُ
فَعَبْدُ الحَقِّ في النُّبَغَاءِ فَرْدٌ
فِكْرٌ حَديثٌ وَعِلمٌ ثُمَّ قُرآنُ
يَكفِيه مَا شَهِدَتْ فاسٌ بِخِدمَتِهِ
هِي الدَّليلُ إذا يُحتاجُ بُرهَانُ
وَأَسْماءُ المَصونَةُ خَيْرُ زَوجٍ
في المَالياتِ لها بَاعٌ وإتِقانُ
ورَبَّةُ البَيتِ فيهِ بِابْتِسَامَتِها
يَغْشو السُّرورُ وتَنْفى عَنْهُ أَحزانُ
وَ»جَنَّة» لا تَسَلْ كم هي مُسْعَدَةٌ
إذا شَدَت أو تَلَت فَالجَمعُ فَرحانُ
وكالعَروسِ عَروسِ البَحرِ إن سَجتْ
وَإنْ شَكَت أَو بَكَت فالكُلُّ حَيْرانُ
والشِّبْلُ مِن أُمِّهِ قَد حَازَ ضُحْكَتهَا
وَيَستَجيبُ لمن نَادَاهُ (عُثمانُ)
إليهم تَحيَّاتي مع «حَميدَتي» في
حُسنِ الثَّناءِ وهَل يَكفِينا شُكرانُ
لَعلَّنا عَن قَريبٍ في الرِّباطِ نَرى
مُرَحَّبينَ بِهِمْ فَالشَّوقُ نِيرانُ
ثم اطلع على الأبيات شاعرعربي متمكن، أتشرف بزمالته وأخوته، من أصول فلسطينية الأستاذ خليل عيلبوني، عاش حياته بين دولة الإمارات العربية المتحدة والمغرب، وأعطاه الله عروبة صادقة، وهو أمير من أمراء منابر الشعر، يقيم للإبداع قلعة وللموهبة عرشا ويضع فوق هامة الشعر تاجا، والصولجان في يده يراع من خشب الأرز العربي الأصيل، هذا الرجل أحب المغرب كثيرا وأحب مدينة فاس بالخصوص. ولفاس التي ترعرعت فيها، أول عاصمة للمملكة، دور كبير في تأسيس الدولة المغربية والمواطن المغربي الذي عرف بانفتاحه وقبوله بالآخر أياً كانت ديانته. وكان من آثار توسيع فاس، ظهور حركة علمية، انطلاقاً من جامع القرويين الذي أسسته السيدة فاطمة بنت محمد الفهري المكناة أم البنين، عام خمسة وأربعين ومائتين للهجرة (859م) في عهد يحيى حفيد إدريس الثاني، ثم جامع الأندلس الذي أنشأته بعد ذلك أختها السيدة مريم، وكانتا قد وفدتا ضمن الأسر التي قدمت من القيروان إلى فاس في ذلك العهد. ويمكن القول إن المدينة أصبحت بفضل هذين الجامعين -ولا سيما القرويين- عاصمة علمية تضاهي قرطبة في الأندلس، ومركزاً دينياً للفقه المالكي الذي اختاره المغاربة واستقروا عليه -إلى جانب العقيدة الأشعرية- ابتداء من منتصف القرن الثاني الهجري، حتى غدا من أبرز ظواهرهم الفكرية، إن لم يكن أبرزها على الإطلاق. واكتسبت مدينة فاس مركزية لا توصف، ليس بالنسبة للمغرب فحسب، ولكن للعالم الإسلامي كله، إذ غدت قبلة الفقهاء الوافدين إليها بأفواج كبيرة من كل حدب وصوب، ولاسيما من القيروان والأندلس أواخر القرن الثاني الهجري وأوائل الثالث، على نحو ما يحكي التاريخ عن وفود القيروانيين والأندلسيين الذين كانوا في معظمهم من الفقهاء المالكيين، ووفود اليهود الذين اضطهدوا في الأندلس، والرحالة والطلبة والعلماء من كل الديانات على نحو ما يُذكر عن قدوم جربير (Gerbert d›Aurillac) الذي هو البابا سلفستر الثاني، إذ يقال إنه زار فاس بعد منتصف القرن العاشر الميلادي، وأخذ الحساب عن علماء القرويين، وإنه هو أول من أدخل الأرقام العربية إلى أوروبا. ولم يكن غريباً في سياق هذا التطور المتنامي، أن تحتضن فاس جموع الوافدين إليها من مختلف الجهات، وأن تصهرهم في بوتقتها، وتدمجهم في مجتمعها المتحرك الجذاب، القابل لمثل هذا التفاعل الذي التقى فيه الأمازيغ بالعرب الوافدين من الأندلس والمشرق، وكذا بالأفارقة القادمينليها من جنوب الصحراء، واليهود الذين أتوا من مناطق النزاع ووجدوا في المواطن المغربي قمة في التسامح وتجسيداً لروح الدين الوسطي المعتدل....
فجادت قريحته بأبيات بنفس القافية يقول فيها:
قَرأتُ بالحُبِّ مَا قَد خَطَّ فَنانُ
لَهُ عَلى الشِّعرِ أَحْكامٌ وَسُلطانُ
إِنَّ الجِراريَّ عَبَّاسا إِذا انْطَلقَتْ
خُيولُ أَحْرُفِهِ لم يبقَ فُرسَانُ
أَتى إلى فاسَ مُشْتاقًا بِه طَربٌ
وَكَم تَغَنَّى بِفاسِ الحُبَّ عُربانُ
وكانَ بَيتٌ لِعبدِ الحَقِّ مُنتَظِراً
تَرنُو لِزائِرهِ بالحُبِّ جُدرانُ
وَكم تَرقَّبَ عَبدُ الحَقِّ زائِرهُ
كَما تَرقَّبَ عَذبُ المَاء ظَمآنُ
حَتَّى أطَلَّ كَشَمسِ الصُّبحِ فابْتهَجتْ
قُلوبُ مَن هُمْ لِذاكَ البَيتِ سُكَّانُ
أَسماءُ قَامتْ وبِشرُ الوَجهِ يَسبِقُها
تَقولُ: يا مَرحبا والقَلبُ فَرْحانُ
ورَحَّبتْ «جَنَّةٌ» بالزائِرينَ ومَا
أَخَفى الحَفاوَة والتَّرحيبَ «عُثْمَانُ»
عَبَّاسُ أهلاً بِكُم مَعكم حَميدَتكُمْ
هذي زِيَارتُكُمُ بِرٌّ وإحْسانُ
وَفاسُ تَزهُو بِكم تَصْبُو لِرُؤْيتكِمْ
فِيها لكُم سَيدي أَهلٌ وخِلاَّنُ
وكَم نظَّمتَ لهَا شِعراً يخَلِّدُها
وإِني مِن حُميَّا الشِّعرِ نَشْوانُ
فأنتَ لِلمغْرِبِ العَربيِّ مُعْتمدٌ
سَفيرَ حُبٍ لَه بَينَ الوَرَى شَانُ
أَعْطَيتهُ العُمرَ لم تَبخَلِ عَليهِ بِما
أعْطاكَ مِن نِعمِ الإِبداعِ رَحْمانُ
يا وَجهَ شَعبٍ عَريقٍ في أصَالتِهِ
بِه يُطِلُّ على الإنْسانِ إنْسانُ
أَنا ونَجلُكَ «عَبد الحَقِّ» نُعلِنُها
إِن جَاز في الحُبِّ إِشْهارٌ وإِعلانُ
نَقولُ: أَهلاً وسَهلاً دَائماً أبداً
في كُلِّ دَربٍ لَكُمْ وَردٌ وَرَيْحانُ
لَكُم على فاسَ فضْلٌ ليسَ يُنكِرُهُ
شَعبُ وَفِيٌّ وَما لِلفَضلِ نِسْيانُ