نقلت مؤخراً صحيفة الواشنطن البوست الأمريكية أن تسعة من كبار قيادات «داعش» قضوا بعض الوقت في سجن بوكا العراقية، تبعا لما ذكرته «مجموعة صوفان»، وهي مؤسسة معنية بتحليل قضايا الإرهاب. وبخلاف البغدادي،
الذي قضى خمس سنوات بهذا السجن، كان من بين قيادات «داعش» الأخرى التي سجنت هناك الرجل الثاني في الجماعة وهو أبو مسلم التركماني، وحاجي بكر، القيادي العسكري البارز الذي توفي مؤخرا، وأبو قاسم قائد المقاتلين الأجانب، حسبما أفادت المؤسسة. وأضافت المؤسسة أنه رغم احتمالات أن يكون هؤلاء الأشخاص قد تحولوا للتطرف بعد دخولهم السجن، يبقى الأمر المؤكد أنهم خرجوا جميعا من السجن متطرفين.
وفي مقال لهما نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» هذا الشهر، أوضح أندرو ثومبسون، العسكري السابق، والأكاديمي جيرمي سري أنه «قبل احتجازهم، كان البغدادي وآخرون من الراديكاليين الذين يميلون للعنف والعازمين على مهاجمة أميركا. وجاءت فترة احتجازهم في السجن لتعمق تطرفهم ولتمنحهم فرص توسيع دائرة أتباعهم.. وتحولت السجون لجامعات إرهابية فعلية، حيث لعب الراديكاليون المخضرمون دور الأساتذة، بينما كان باقي السجناء الطلاب. أما سلطات السجن فلعبت دور الحارس الغائب». ولا غرو أن هذا السيناريو حير سلطات فرض القانون منذ أمد بعيد. ومن التساؤلات التي يثيرها: كيف يمكن التعامل بصرامة مع التطرف من دون خلق المزيد منه؟ من التحول نحو الراديكالية في صفوف العنصريين البيض داخل السجون الأميركية إلى محاولة المملكة المتحدة الكارثية لسجن أعضاء الجيش الجمهوري الآيرلندي، تبقى المشكلة كما هي: أن السجون معاقل للتطرف في انتظار شرارة واحدة للانفجار. داخل سجن بوكا،كان هناك فيض من الشرر. وقد كتب المأمور السابق لسجن بوكا، جيمس سكيلر غيروند، في رسالة عبر «تويتر» مع تزايد الاهتمام بالفترة التي قضاها البغدادي في سجن بوكا، إن «الكثير منا داخل سجن بوكا ساوره القلق من أنه بدلا من احتجازنا للسجناء، فإننا واقع الأمركنا ندير مفرخة للمتطرفين». يذكر أن غيروند عمل بالسجن بين عامي 2006 و2007. عندما كان يعج بالآلاف من الراديكاليين، بينهم البغدادي.....وعندما تضخم عدد نزلاء السجن بصورة هائلة بلغت 24.000 سجين، اعتملت جنبات السجن بمشاعر التطرف. وجرى تقسيم السجناء تبعا لانتماءاتهم الطائفية، أملا في تخفيف حدة التوتر، حسبما ذكر تقرير عسكري.. وأضاف التقرير: «خلف هذه القضبان متطرفون إسلاميون مستعدون لتشويه أو قتل زملائهم المسجونين لإتيانهم بأي سلوك يعتبرونه ضد الإسلام».
وذكر أحد الجنود في ثنايا التقرير أن «محاكم الشريعة تفرض الكثير من القواعد داخل جدران السجن. ويتعرض أي شخص يأتي بسلوك يعد (غربيا) لعقاب شديد من قبل العناصر المتطرفة داخل السجن.. ويصبح الأمر مرعبا للغاية بعض الأحيان».....
معنى هذا الكلام أن السجون بدورها لا تسلم من مراض الذهان والمتطرفين وأصحاب الغلو وأن وضع مراقبات دائمة لتحصين من سلموا من هاته المصيبة الآزفة مسألة مصيرية... وبمعنى أنه لا يكفي استئصال الإرهابيين والسفاكين الملوثة عقولهم وقلوبهم، محبي الدماء وقطع الرؤوس فحسب، بل لا بد من التأثير على عقول البشر حتى في السجون ولا بد من تدخل الدول لتنظيم الوعظ والإرشاد المبنيين على الوسطية والاعتدال؛ وهنا دور العلماء الذين يجب أن يجندوا لهذا العمل لكيلا يتركوا الساحة فارغة يملؤها أصحاب الغلو والمتطرفون.... وفي رأيي حتى هؤلاء المتطرفين يجب مناظرتهم في السجون من طرف علماء أكفاء... فالإرهابيون عقولهم مشوشة، وقادتهم كما يكتب المستشار محمد سعيد العشماوي يقدمون فهمهم من منهج الدعاية لا العلم، وبأسلوب الإلحاح لا الإقناع، وبطريق التوكيد دون ما تدليل أو نقاش أو نقد. وهم لا يسمحون لأنفسهم -حتى لا يهتزوا، ولا لأتباعهم- حتى لا يهربوا، ولا لخصومهم - حتى لا ينتصروا، بأن يناقشوا هذا الفهم بالعقل والمنطق، أو يقرأوا أي فهم غيره، أو يطلعوا على أي فكر سواه، أو يتبعوا أي منهج خلافه، لأن ذلك - إن حدث - لابد أن يكشف ما في فهمهم من قصور وما في أسلوبهم من عوار؛ ومن ثم فهم يعادون أي فكر غير فكرهم (الذي يسمى فكرا من قبيل التجاوز)، ويرفضون أي منطق سوى منطقهم (الذي يعد منطقا من حيث الجدل) ويأبون أي حجة ما لم تكن حجتهم هم. لذلك فهم لا يردون بالمنطق العام بل الشائعات، ولا يجادلون بالحسنى بل يرفعون على الدوام عصا التهديد وسلاح الاغتيال، ولا يواجهون بالعفو والتسامح بل بالعنف والعدوان. وهم يكذبون ويتهمون غيرهم بالكذب، يحرفون ويتهمون غيرهم بالتحريف، يزيفون ويتهمون غيرهم بالتزييف، لسان حالهم العاثر يقول: من ليس معنا فهو علينا، ومن لم يتبع منطقنا فلا منطق له، ومن لا يؤمن بأهدافنا فهو آثم باغ، ومن يقف في طريقنا فهوكافر مرتد. وكل من درس أو قرأ في الطب النفسي يعرف أن من خصائص مرض الذهان أن يلجأ المصاب به إلى الإفراط في المنطقة والتوكيد؛ لكنه يجنح في ذلك إلى منطقه الخاص لا إلى المنطق العام، ويسرف في التصورات الشخصية غير الواقعية، ويعجز عن مطابقة فهمه وتصوره وتعبيره للواقع؛ ومن ثم فهو يعيش في حالة من الفصام بينه وبين الحياة السوية السليمة الواقعية.... فالمشكلة العظمى إذن هي في عقول هؤلاء الناس وتكوينهم وجهلهم، وأفكارهم هي فيرسات إذا تركت ترفرف في الهواء فإنها تصيب كل من لا يملك عقلا راشدا ناهيك عن السجناء المعرضين في مكان مغلق وبسهولة لكل التيارات....
سبق وأن كتبت أن المنظومة التربوية والتعليمية والتكوينية في مجتمعاتنا أفرزت مثل هاته الفيروسات الخطيرة... ثم تساءلت لماذا لا تقوم منظومتنا التربوية بزرع المبادئ والقواعد الدينية السمحة في أفئدة وعقول الناشئة منذ صغر سنهم، وتزيل عنهم الطغيان في التعصب الديني والتنازع والفرقة والاختلاف، وتشرح لهم خطورة الفهم الحرفي والسطحي والجزئي المتوجس من المقاصد الضابطة لبوصلة النص والحكم الشرعيين، ولماذا لا نزرع فيهم الرؤية المقاصدية الصحيحة التي تعاني من غلوين، غلو معطلة المقاصد باسم النصوص وغلو معطلة النصوص باسم المقاصد، ثم لماذا لا نرتب في أذهانهم منطق الأولويات: الأصول قبل الفروع، الكلي قبل الجزئي، المسالم قبل المحارب وغير ذلك؛ ولماذا لا نحارب في أذهانهم الجهل بأحكام الشرع وأصوله وقواعده ومقاصده السمحة ونعطيهم رؤية شمولية للنصوص والمعالجة المنهجية للأحكام، وهي مسائل يمكن أن ندرسها لمن سيصبح أستاذا أو طبيبا أو مهندسا أو نجارا أو حدادا ولأدمجناه بذلك إدماجا صحيحا في مجتمعه ولقضينا على سيكولوجية الإنسان المقهور المطعم بأفكار وقناعات دينية ضالة ومضلة... فالمستوى الثقافي عند الداعشيين محدود ومضل وخطير، ينزعون النصوص من سياقها ويسيئون فهم مناطق استعمال القوة في القرآن الكريم ويخلطون مرحلة الدعوة بمرحلة الدولة ويخلطون بين الوعيد الإلهي والمعاملة البشرية ويخلطون الحق بالصواب فتتكون عندهم لا شعوريا عقلية عسكراتية.... وأضيف إلى هذا الكلام أنه ليس فقط الناشئة الذين يجب أن نستثمر فيهم كل قوانا لإبعادهم من معسكر التطرف والغلو وقبول الآخر واستعمال العنف بل وحتى السجناء والذين بلغوا سن الرشد، إذ يجب مقاومتهم فكريا وعلميا ودينيا وأمنيا وهي مكونات للقاح واحد....