أبت الأحساء إلا أن تبقى حضناً للتعايش حتى في نزفها!..
وشهدت المملكة تلاقي الأضداد والمتصارعين والمختلفين حول سريرها الأبيض وهي ترمقهم بعين الرحمة، وتمد ذراعيها حولهم بكل رفق فيما تبعث بدماء أبنائها رسالة صارخة في وجه من أراد زعزعة أمننا الوطني.
يوم الجمعة الماضي غصت ربوعها بجموع تشييع شهداء الدالوة في تظاهرة وطنية أشبه بمهرجان لا سابق له حمل عنوان «الوحدة الوطنية» تشارك فيه أطياف المجتمع باختلافهم. ورفعت صور شهداء الواجب في مسيرة صارخة في وجه الإرهاب «إخوان سنة وشيعة.. هذا الوطن ما نبيعه». وفي سرعة قياسية صدر بيان هيئة كبار العلماء مستنكراً الحادث، كما تحركت وزارة الداخلية سريعاً بتعقب مجرمي الإرهاب والقبض عليهم. وتضامنت أصوات من العالم الإسلامي في وسوم مشتركة في تويتر. هذا كله ألا يدفعنا للتساؤل: لماذا الأحساء؟ لماذا بكى الجميع جرح الأحساء؟ لماذا رقت حتى القلوب السميكة لألمها؟ لماذا تلاقى حولها الأضداد ولسان حالهم يقول: ابن الأحساء هو ابن الوطن، وجرح الأحساء هو جرح الوطن؟.
صبيحة الحادثة أتاني اتصال هاتفي من أحد مثقفي القصيم وكان حديثه مليئاً بالغصة والألم.. سارداً قصص التعايش التي خاضها شخصياً في الأحساء حينما كان يعمل بها قبل ثلاثين عاماً قال: كان ابن السنة يهب ابنه لمرضعة شيعية. والأحسائي لا تفوته صلاة العصر جماعة، فإن فوتها في «مسجد شيعي» لحقها في « مسجد سني». ثم ختم مكالمته بصوت يملأه الحسرة على ما آل إليه الحال من تغلغل الطائفية وبث رغبته الصادقة بأن يشارك الوفود مهرجان التشييع في الأحساء.
بعدها بدقائق أتاني اتصال من أحد نشطاء القطيف يبثني بالغ أسفه إثر حادثة الدالوة المروعة. ثم يروي بدوره ذكرياته أيام عمله بالأحساء قبل أعوام طويلة. وأنه كان في فريق عمل يضم عدة مواطنين من أنحاء متفرقة من المملكة كانوا يتشاركون الغداء والصلاة وأماكن النوم. ولم يكن أحدهم يلتفت لمذهب الآخر. حياني بود وأبلغني أنه سيكون من ضمن المشيعين في دالوة الأحساء ثم أنهى المكالمة.
هذه هي الأحساء في ذاكرة الجميع، حلم التعايش الذي تجسد في الأحساء بكل مصداقية. وأن الرصاصة الغادرة أرادت اختطاف الحلم بكل وحشية وبأبشع الصور. وابن الأحساء هو الأنموذج الذي يستحضر في الذاكرة الاجتماعية لرجل التسامح والتعايش الذي يهمش كل شيء عدا المصافحة والاحتضان. هذا الكائن المسالم الذي يعرف أولوياته ويسعى لها ببصيرة العارف بالعواقب.
فهل تصبح حادثة الدالوة منعطفاً في المسألة الطائفية؟..
هل سرق الطائفيون حلم التعايش؟..
ماذا حدث على هامش مهرجان الوحدة؟..
هذا ما سأتحدث عنه في مقالي القادم.
رحم الله الشهداء وألهمنا عنهم الصبر والسلوان.