المشكلة التي عانت وتعاني منها بعض الأمصار في الأوطان العربية والبعيدة عن مقومات السير الحضاري للأوطان، هي المتعلقة بزج الدين في السياسة والسياسة في الدين، وهذا خطر على الدين والدولة والمجتمع. الإسلام بخير والمسلمون بخير كما
كتبنا مراراً في أعمدة الجزيرة. فالذي ينقصنا هنا هو خلق أدوات التسيير الصحيحة للإبداع والابتكار في مجال تسيير الشأن العام لتحقيق التنمية والوصول إلى مدارج الكمال، حتى نحقق ثقافة النحل في الإنتاج الاقتصادي المثمر. هذا هو المطلوب. الأحزاب الإسلامية الآن في بعض الأوطان مقتنعة على خطأ أنها يجب أن تشتغل وتفرض هيمنتها بالاستثمار المنظم لمورد حيوي يتمثل في الدين وفي مجتمعات كلها مسلمة، وهنا تكمن المشكلة لأنّ الصراع بين الأطياف المجتمعية السياسية ستغوص في متاهات وغيابات دينية خطيرة في مجال ليس بالديني، وإنما هو مجال سياسي تتصارع الأحزاب داخله انطلاقاً من برامج حزبية دنيوية تتعلق بالاقتصاد والمجتمع والمؤسسات وغيرها وليس انطلاقاً من العوامل الدينية. الزج بالدين في المجال السياسي العام فاتح لأبواب جهنم، لأنه في بعض الأحيان يخرج ضعاف النفوس والعلم أناساً من الملة، لأنهم ليسوا على طريقتهم كما يروها هم، أو لم يتبعوا منهاجهم في مسائل تافهة، ويبدأ الصراع في مسائل عقدية في مجتمعات مسلمة - داخل المجال السياسي - وهاته مصيبة أزفة ليس لها من دون الله كاشفة.
الحل في مجتمعاتنا العربية والمسلمة في غاية السهولة، فالعبادة العقائدية والروحية متواجدة، كما أنّ مكوّنات العبادة العمرانية متواجدة، ويكفي استثمارها بالطريقة الرياضية الصحيحة لتحقيق تنمية كل بلد على حدة...
لقد فهم الخاص والعام منذ بداية ما سمي «ثورة الياسمين» في تونس وتسلسل الأحداث المرعبة والرهيبة في العديد من الدول العربية، وما آلت إليه الأوضاع المزرية في الكثير من الأمصار، أنّ تحديث العقل وتجديد الفكر مسائل لا محيد عنها عند كل الفاعلين والذي عليهما أن يعيا بالماضي والحاضر والمستقبل بنظام الكون ومنطق التاريخ والعقل، وبقوانين العلوم الإنسانية والاجتماعية الشبيهة بالعلوم الرياضية... أما أن يستغل الإسلام في شكل سياسي، وأن يقوم البعض باستخواء الدين في مجموعات حزبية، وأن يستبدل الإسلام السياسي بالإسلام ديناً، فهنا المصيبة العظمى والداهية التي ليس لها من دون الله كاشفة، وهو خطر على الدين والإسلام والمسلمين والبشرية جمعاء... فقد كانت لهذا الزج آثار سلبية وخيمة على مجتمعات المسلمين، فمن تلك الأحزاب من قضت نحبها ومنها من تنتظر ومنها من رزقت بذور الحكمة، وبدأت تتساءل وتكتشف زيف تلك العصمة وتلك القداسة وتلك الحلول السحرية للمجتمعات التي كانت تزعمها وتدعيها.. وقد استوقفني هنا حوار جدِّي ومطول أجرته جريدة «أخبار اليوم» المغربية مع عبد الفتاح مورو، نائب رئيس حركة «النهضة» التونسية التي حكمت تونس بعد أول انتخابات تلت حكم الرئيس المخلوع بن علي، قبل أن تترك كرسي رئاسة الوزراء، ومن خلال هذا الحوار يمكن أن نستخلص ثلاثة دروس رئيسية:
- الدرس الأول: هو أنّ صندوق الانتخابات يمكن أن يوصل حزباً إلى الحكم ولكنه ليس كافياً للحكم «وهذا بخلاف الفهم السابق الذي كان سائداً، ويقول إنّ الأغلبية هي الشرعية، وإنها كافية لكي تحكم. إنّ الذي يبقيك في الحكم، بعد الأغلبية الصندوقية، هو فهمك لمفاصل الحكم. ومن بين مفاصل الحكم الوفاق مع الأطراف الأخرى. عندما يكون بين يديك مشروع تريد تنفيذه، لا يكفي في ذلك 50 أو 60 في المئة من الأصوات، بل تحتاج أولاً إلى أن تقنع الآخرين به... إنّ الذي استفدناه هو أننا لا ينبغي أن نعبّر عن شريحة اجتماعية هي شريحتنا، لأنّ من يأتي إلى الحكم ليعبر عن شريحته فقط يبقى معزولاً، ثم يتحول إلى ديكتاتور» وهذا كلام في غاية الدقة. فبدون سند رجال الإدارة، أو لنقل رجالات الدولة، ومن دون رجال الأعمال والمستثمرين، لا يمكنك أن تبني دولة بل حتى مؤسسة بسيطة، زد على ذلك أنّ من يريد أن يمثل شريحته وأتباعه فقط، فإنه يبقى معزولاً في الداخل والخارج قبل أن يتحجر عقله ويصبح أكثر سلطوية وأكثر ديكتاتورية.. فالفرد في الحزب ليست له سلطة مطلقة، لأنّ الحكم يقوم على نظام دقيق ومؤسسات محددة لا يكون الحاكم فيها إلاّ جزءاً من أداة الحكم، جزءاً مهماً ومؤثراً ولكنه على القطع ليس كل النظام وليس بديلاً عنه أبداً... فالديكتاتورية التي عناها عبد الفتاح مورو في دول مثل تونس ومصر هي تلك التي يظن فيها بعض المتحزبين أن الحكم يقتصر عليهم من دون غيرهم، ويضفون على أنفسهم العصمة والقداسة ويرمون أي معارض بـ«الزندقة» و«الكفر» و»الإلحاد» والفساد في الأرض!
- الدرس الثاني: هو «أنّ هناك فرقاً بين النظري والتطبيقي. لقد كان جلّ السياسيين، بعد الثورة، عائمين بين السحاب والكتاب.. إما نظرية قرأها في كتاب، أو حلم يحلم به في السحاب، لكن الواقع هو الذي يفرز السياسي القوي. إنّ السياسة هي الميدان، فهي فهم للواقع» فالفرق كبير بين النظرية والتطبيق. وتسيير الشأن العام يحتاج إلى رجال أكفاء مختصين لهم علم ودراية بمسائل التنمية والنهضة والتشغيل والتربية والتكوين والتعليم والمجالات القطاعية، ويحتاج إلى الخبراء وذوي الاحتكاك اليومي بمشاكل المجتمع الحقيقية لا إلى أناس «عائمين بين السحاب والكتاب» يبنون أقاويلهم على أوهام وأخطاء وأكاذيب وتحاريف وتخاريف ما أنزل الله بها من سلطان.. والوطن العربي في حاجة إلى تصورات وسياسات جديدة في تسيير الشأن العام، وإلى سياسات اقتصادية وتنموية ناضجة وجادة غير عابثة، وواقعية غير عاطفية أو جاهلة.
- الدرس الثالث: هو أنّ «عصرنا ليس عصر إيديولوجيات أبداً، لأنّ المشاكل التي نواجهها اليوم هي نفسها التي تواجه الإسلامي والوطني والقومي. جميعهم مطالبون بإيجاد حلّ للمشاكل نفسها، وهذا الحل لن يكون إيديولوجياً. ولا يتصور أحد أنّ الشعار يحل المشاكل. لقد رفعنا شعار «الإسلام هو الحل»، لكن هذا ليس حلاً، وإنما هو شعار لا يغير الواقع في شيء. إنّ مجتمعاتنا اليوم لا تحتاج إلى التقسيم الإيديولوجي التقليدي. وإذا اضطررنا إلى ذلك، فيجب أن يكون التقسيم بين تقدميين ورجعيين.. بين تقدميين لهم روح النظر إلى المستقبل، ويؤمنون بالتطوير والتقدم والتحديث، وهؤلاء فيهم الإسلامي والوطني والقومي، في مقابل أناس.. يعيشون في الماضي، معطلين للتغيير.. يعيشون إما في ماض يساري أو قومي أو إسلامي، وهؤلاء لن يفيدوا، وسيكونون عناصر تفريق وتقهقر». بمعنى أنّ «الإسلاميين» مطالبون اليوم وليس غداً بتغيير ألبستهم الحاملة لشتى أنواع الأمراض وليصبحوا أحزاب واقع لا أحزاب شعارات مدوية لا تسمن ولا تغني من جوع.. لقد ضيعت أحزاب الإسلام السياسي الوقت الكثير وألحقت بشعوبها الضرر الكثير، وقد آن الأوان لكي يتسم كل الفاعلين السياسيين بالحكمة، والحكمة ضالة المؤمن، لإنشاء دول وحضارة سامية سامقة. فعار ثم عار أن تدخل الأحزاب «الإسلامية» دولها بعد كل الذي وقع في متاهات وخرافات تهدم النظم ولا تنشئ، تقوض ولا تبني، تخلع ولا ترفع، وتحدث الفوضى التي بدأت تجتاح كل شيء، والعدم سيقضي على كل حياة، ويصعب بعد ذلك إنشاء أي كيان جديد سليم.