مفهوم الحرية ناشئ وجديد في مجتمعاتنا، مع أنه قديم في تأسيسه مع بداية الإسلام وفي عدد من المواقع القرآنية كما أتى في قوله تعالى: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين).. كذلك في الجملة الشهيرة للخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا».. مع هذا كله، نجد أن -بعضهم- لا يُحسن استخدامه، ولا يفهم كثيرون أعماقه ودلالاته، فانحرف عن المعنى الأصيل وتركز في السلوكيات لا الأفكار. ولعل أفضل مرحلة يُمكننا من خلالها استقراء المشهد هي مرحلة الربيع العربي الذي عبرناه خلال الثلاث سنوات الماضية وما يتبعها من تغيرات فكرية وسلوكية على مستوى المنطقة العربية، توّضح الخلل الحاصل في كثير من المفاهيم أولها مفهوم الحرية. فانعكس وتبدّل هذا المعنى النبيل إلى سلوكيات منحدرة وإجرامية، فصار عند -البعض- التخريب والقتل والإرهاب هو من الحرية، وصارت الجرأة على أعراض الناس هو من الحرية، وصار التلفظ بالشتائم والتجريح هو من الحرية، وبدأنا نفقد القيّم تحت مسمى الحرية.
ولا يُستثنى من هذا أصحاب المعايير المزدوجة في الحرية، فتجد أحدهم يكتب عبر الصحف أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي عبارات جميلة ومنمقة ومطالبات -مثلاً- بتحرير المرأة، وفي واقعه لا يستطيع تطبيق كلمة واحدة على حياته الشخصية، بل يكون أكثر من يصادر حرية المرأة وعدم الاعتراف بها، أو كمن يقوم بالتنديد عن العنف ضد المرأة وهو أكثر من يُمارس هذا العنف مع نساء بيته..! كثيرًا ما أفكر بهذه الازدواجية وقدرة بعض البشر على الظهور بمظهرين مختلفين، هل الحالة المجتمعية والأوضاع المتناقضة هي من خلقت هذه الحالة من الفصام؟ أم أن الفرد هو المسؤول عن نفسه وهو من خلق عالمه المتناقض؟ لا أنكر أن الوضع الاجتماعي قادر على أن يخلق في داخل كل منّا شخصية مزدوجة، ولعل أقرب مثال إلى هذا ما يحدث داخل الطائرات المسافرة أو العائدة من الخارج، عندما تقوم النساء بخلع العباءة عند السفر وارتداءها عند العودة، كثيرًا ما ناقشت هذا الموضوع مع زميلات وصديقات وكنت أرد على عبارات الاستهجان حول هذا السلوك، أن القانون هو من أوجد هذه الازدواجية فالمرأة هنا ليست مخيّرة إنما ترتدي العباءة امتثالاً للأنظمة.
وهذا المثال يختلف تمامًا عن المثال الذي سبقه، فالمرأة هنا ليست مخيّرة بينما الرجل الذي يكتب ويُنظر بعبارات الحرية وهو لا يطبقها على مستوى حياته الضيقة، هنا يمكننا القول أنه يُعاني من حالة مرضية وصفها لدى الأطباء والمتخصصين في علم النفس.
إن مفاهيم الحرية في عالمنا اليوم باتت مشوهة وهزيلة وغير منطقية، لذا هي بحاجة إلى إعادة ترميم على أسس سليمة وقواعد مرتبطة بالواقع والمبتغى في المستقبل، لتحقيق مفاهيم أكثر توازنًا في الفكر والسلوك. ولن تتعدل السلوكيات وتتبدل الأفكار طالما أن العقل مسدود المنافذ وغير قادر على تحقيق استقلاليته فمن الطبيعي أن يتحرك ضمن أفكار سلبية للحرية وممارسات موجعة لمجتمعه، فتحرير العقل من التبعية هو بداية تحريك السلوك بعيدًا عن الازدواجية، وقدرة الانسان على التعايش مع نفسه دون أن يشعر منها بخجل وهو ينظر إلى مرآة صورته، ورؤيته المشوهة لنفسه هي بداية الطريق نحو الشعور بالذنب والخطأ.
بقي التأكيد على أن كلمة (حرية) سيئة السمعة في مجتمعنا، هي انعكاس للمفهوم غير الصحيح الذي يُمارس تحت هذا المسمى!