«الكبت».. سلوك عربي عام، تتميز به الشعوب العربية في كافة الاتجاهات الإيجابية، فقليل منّا من هو قادر عن الإفصاح عن مشاعر الحب والاعتراف بها، يخجل الكثير من الاعتراف بالحب وممارسة هذه المشاعر دون حرج. أتأمل الناس، أشاهد الأطفال، أتابع تعابير الأمهات، أجد الغالبية يتعاملن بشكل (مهني) مع الطفل، تخرج معه، تشتري له احتياجاته، تأخذه إلى الطبيب، كل هذا يحدث بحراك جاد ومنظم، بينما من النادر أن نرى أمًا تقوم بتقبيل طفلها في مطعم أو سوق أو حتى في حجرة انتظار الطبيب، نرى الأم أو الأب في المطعم يقومان بمشاركة الطفل وجبة الطعام بطريقة آلية، وكأنه واجب ثقيل يريدان تأديته بأقصى سرعة وعلى أتم وجه، وحتى بدون أطفال يجلس الناس بطريقة مرتبكة وكأن الهدف الطعام، مع أن ثقافة المطاعم تختلف جذريًا عمّا نعيشه ونُمارسه، ولعل هذا من أسباب عزوفي «هنا» عن زيارة المطاعم وندرة خروجي إليها، فالمشاهد المؤلمة أكثر من الجميلة، التوتر والقلق والارتباك أصبح سمة شبه عامة حتى في أكثر الأماكن التي يجب أن تحظى بالهدوء والراحة والطمأنينة!
مع هذا، لا يُعتبر من النادر رؤية مشهد تعنيف للطفل سواء كان لفظيًا أو جسديًا، فهم لا يخجلون من إظهار المشاعر السلبية والسلوكيات السيئة لأنها صارت في الأعراف المجتمعية أفعالاً تأديبية يعتقد -بعض- الأمهات والآباء أنها تثير إعجاب الآخرين، وأنهم سيظهرون بمشهد المربين الأفاضل.
نفس التأملات والمتابعات والمشاهدات أعيشها بالخارج، في السوق، في المستشفى، في المطعم، على شاطئ البحر، أرى اختلافًا جذريًا في ثقافة الحب، أرى الأمهات والآباء يقبلون أطفالهم في كل مكان، يجلسون معهم في المطعم ويُطعمونهم بحب، يمنحوهم الوقت الكافي لتناول الوجبة والشعور بها وبجو التآلف الأسري الذي تمنحه لهم هذه اللحظات السعيدة، وليس كما نرى في عالمنا الشرقي وكأن الأبوين في مطاردة مع الطعام وسباق مع معدة الطفل التي لا تحتاج في هذا المكان إلى الطعام بقدر ما يحتاج هو الأجواء المحيطة بتناوله الطعام. أتأمل كل مشهد أمامي تعيشه أم أو يعيشه أب في الخارج مع أطفالهما، أتلمّس حجم الرحمة والحب والعطاء واللطف ما لم أجده في مجتمعاتنا التي بات فيها الفرد يؤدي واجباته وكأنها رزح ثقيل يريد أن ينتهي منه، لا يتلذذ بأي لحظة، ويحرم نفسه كل متعة في الدخول إلى أعماق الطفل، وبعد هذا كله تقول الأم وكذلك الأب: (لم أقصر مع أبنائي)، نعم صحيح لا يوجد تقصير في الواجبات إنما التقصير في طريقة أداء الواجبات، التقصير ليس في الوقت الذي يتم قضاؤه مع الطفل، بقدر ما هو تقصير في كيفية قضاء هذا الوقت..!
أما الأمر الآخر وكأني أراه الآن من -بعض- القراء، ترديد الاسطوانة «المشروخة» أننا أكثر حبًا لأبنائنا من الغرب وأن لدينا تماسكًا أسريًا يفتقدونه، أقول: نعم لدينا كل شيء في الصورة الخارجية يبدو أفضل، بينما في دواخله لا يتعدى عن مجموعة من المشاعر التي لا أصفها بأكثر من كونها بلا حياة، مشاعر لا روح فيها، حوّلت علاقاتنا بأقرب الناس لنا إلى روابط آلية نُمارسها لأجل الآخرين لا من أجل أنفسنا!