يتكئ البدر.. على تقانة السرد الشعري، في كثير من النصوص التي يكتبها، سعياً منه لإضفاء عنصرالإثارة والتشويق، لشد انتباه المتلقي إلى مناطق جديدة في فضاء النص الشعري، ليحدث مزيداً من الإثارة والدهشة والغرابة.
حيث نجد نصوصه تحفل بأساليب حكائية وسردية عالية الدقة، والوصف للأشياء من حوله، مستثمراً تقنيات بناء المشهد الشعري، من خلال (تقنية السرد) التي تخرج بالقصيدة من جمودها الصوتي إلى حراكها الصوري. لتتضح من خلالها عناصر البنية السردية، مثل: الزمان، والمكان، والشخوص، وإيجاد علاقات بين هذه الكائنات العاقلة، وغير العاقلة..
وكذلك بينها وبين الطبيعة من جهة أخرى، كما في نصوص:
“الماضي الحاضر” و”الليالي اقصار” و”أرقام” و”أغصان المساويك”.
حيث نجد تلك البنية الدرامية والتصويرية، في سرد شعري جميل ورائع، ونجد أن البدراستثمر تقنية البناء القصصي في نصوصه، لينمو الحدث، متدرجاً بالفكرة، ومستخدماً أساليب القصة، من حيث تقنية السرد والحبكة، لتؤسس مع الصورة الشعرية التي عن طريقها يستطيع التقاط صور جزئية غير مترابطة، ليربطها بأسلوبه الفني، عن طريق تقنية المونتاج، لنظفر بصورة كلية.
وكأننا أمام فيلم سينمائي، مستفيداً من تلك الثقافة، التي منحته القدرة على التجديد والتجريب والابتكار، متجاوزاً المنجز الشعري القديم، وكل ما يحمله من تقريرية ومباشرة، من خلال الرؤية الداخلية، والخارجية الذاتية.
أن ما يميز نصوص البدر السردية، هو انفتاحها الثقافي، والمعرفي، والفكري على العالم من حوله، ومد جسور من العلاقات الفنية، التي تحمل رؤيته للأشياء، في البيئة: الزمانية والمكانية، التي يحتك بها، وينحت منها خاماته الإبداعية، ويعبر عنها برؤيته الخاصة، وما تجسده أمامنا من مشاهد تعبيرية، في غاية الدقة: تفاصيل ومحاصيل.
فلنتأمل هذه المشاهد الشعرية، التي يتجلَّى فيها السارد/ البدر، بلُغةٍ إيحائية ترميزية، مُطلقاً العنان لأفكاره، تسترسل بتلك الصور المشهدية، في التعبير عن تجارب ذاتية/ نفسية، ممزوجة بفلسفة واعية، بالرؤية الداخلية الذاتية.
ونستشهد في نص “أغصان المساويك” التي تحضر (الأنا) الشاعرة في هذه المشاهد بقوة وكيف استطاع توظيف الصورة الكلية، في بناء درامي، يضفي على النص شحنة تعبيرية مكتنزة بالدلالات، ومليئة بالإيحاءات، من خلال توظيف عنصر الحوار الداخلي، والمنولوج الداخلي، والوصف المكاني، ومن خلال تحديد المكان الذي يدور فيه المشهد الشعري.
وتتراوح مشاهد هذا النص: ما بين ضمير المتكلم، والسرد المزدوج، المتضمن الوصف والحوار معاً، ونجد البدر هنا ينقل لنا تفاصيل تلك المشاهد الشعرية، عبركمرته الراصدة، المتعمقة بالإيماءات، التي تحقق الوحدة العضوية والموضوعية للنص:
“تجلس عجوز.. في أول السوق..
عند الأبواب..
وتحت الشبابيك..
وتبيع السوالف..
وأغصان المساويك..
وما يخالف.. لو باعتني الحكي..
الحكي..غالي هالأيام..
مريتها.. أبي الكلام..
قلت: يا خالة، أنا..
إن نسوني الناس.. زعلت..
واللى اذكروني الناس.. زعلت..
صمتي، وحروفي.. مبعثرة..
ضحكت، وقالت:
لو عدلت.. سلمت: قلب، وحنجرة..
ما عطيتها فلوس، على هذا التعب..
وما ريحتني من التعب..
قمت، وعلى عيوني غباش..
مدت لي مسواك..جديد..
عييت..
وقالت لي: بلاش..
إن كانت سنونك نظاف..
حطه في جيبك.. يا ولدي..
يجلي.. محانيك الرهاف..
من كل إحساس ردي..”
فلنتأمل في بداية النص، وهذا المشهد الوصفي:
(تجلس عجوز.. في أول السوق..
وتحت الشبابيك.. وتبيع السوالف..
وأغصان المساويك..)
يصف لنا البدر في المشهد الأول الشخصيّة الرئيسيّة في النص، المتمثلة في (العجوز) أما المكان الذي يدور فيه المشهد فهو (أول السوق، وتحت الشبابيك)..
نجد أن البدر - هنا - أسقط الزمان كقيمة نفسية وشعورية أرادها، معتبراً الزمن النفسي له قيمة شعورية في النص، ثم نقف عند هذه المفارقة الشعرية، بهذه الصورة التجريدية الصوتية: (وتبيع السوالف..) وعبر تراسل الحواس، نحظى بصورة صوتية. وهنا إشارة إلى أن البدر، يريد أن يوصل لنا أن الصوت/ والحواركثيمة متحركة في ردهات النص، وكحالة شعورية للتفريغ النفسي، وهذا ما سنتعرف عليه في المشاهد الشعرية التالية:
وما يخالف.. لو باعتني الحكي..
الحكي غالي هالأيام..
هنا..البدر/ السارد يطرح رؤيته الذاتية لنا (ما يخالف لو باعتني الحكي..) (الحكي غالي هالأيام) هنا إشارة جديدة، ومعطى شعوري، يؤكد أن الإنسان يبحث عن إنسان ليبوح له، وأن الفراغ: هم قاتل: (مريتها.. أبي الكلام..) فالحكي حياكة لنسيج الذات، وتفريغ لتلك التراكمات على سطح الحياة:
قلت: يا خالة، أنا..
إن نسوني الناس.. زعلت..
واللى اذكروني الناس.. زعلت..
صمتي، وحروفي.. مبعثرة..
في هذا المشهد الشعري، يستمر البدر في سرد المشهد الشعري، عبر منظومة فعلية حكائية، مؤثثاً تقنية السرد، ليملأ البناء الشعري حركة وديمومة..
كما نجد أن (الأنا) في قوله:
“إن نسوني الناس.. زعلت..”
“وإن اذكروني الناس.. زعلت”..
“صمتي، وحروفي مبعثرة..”
ومن هنا نتلمس العقدة، والثيمة المصاحبة:
(صمتي، وحروفي مبعثرة..) فكل أشيائي، قلقة، متشتتة.
كذلك في قوله:
(ما عطيتها فلوس، على هذا التعب..
وما ريحتني من التعب..)
ولا زال البدر مستمراً في نقل المشاهد الشعرية، عبر كاميرته الناقلة، صوتاً وصورة، فأتى السرد - هنا - واضحاً، وشفيفاً، دون غموض أوتعقيد، وذلك تبعاً للحالة الشعرية، التي تريد أن تبوح أكثر من أن تلمح، من خلال هذه الأصوات، التي تجعل من البنية الحوارية بنية سردية، مفعمة بالحيوية والاستمرارية
قمت، وعلى عيوني غباش..
مدت لي مسواك جديد..
عييت..
وقالت لي: بلاش..
إن كانت سنونك نظاف..
حطه في جيبك يا ولدي..
يجلي محانيك الرهاف..
من كل إحساس ردي..
ويستمرالبدر بنقل المقاطع الشعرية بضمير المتكلم، يعبر لنا، ويعبر بنا أمام هذه المشاهد التي كتبها، في سياقات تصويرية، متكئاً على تقنية: السرد القصصي، بتلك الصور الشعرية المسردة. فقد تلمسنا ملامح تلك الرؤية، التي يشعر بها عبر تلك الاستعارات، التي يقول عنها، جان كوهين): إن الاستعارة الشعرية، ليست مجرد تغير في المعنى، إنها تغير في طبيعة أو نمط المعنى، انتقالاً من المعنى المفهومي إلى المعنى الانفعالي.
ولهذا.. لم تكن كل استعارة، كيفما كانت شعرية.)
وقد حافظت الحكاية - عموماً - على تماسكها وانسجامها، عبر بنية سردية، ووحدة عضوية، يتكئ البدر في بنائها على التقنيات السردية، مثل: ضمير الأنا، وضمير المخاطب، والحوار، والوصف المكاني. كما نجد أن المفارقة الشعرية بلغت ذروتها في المشهد الشعري، الذي أتى على لسان الطرف الآخر بالقصة: (العجوز) في قولها:
“حطه في جيبك يا ولدي.. يجلي محانيك الرهاف.. من كل إحساس ردي”.