تذكر كتب النحو أن السبب الداعي إلى التفكير في وضع قواعد للغة العربية، هو ظهور اللحن بين الناشئة من العرب أو المستعربين، مما يعني أن الهدف الأساس كان الحفاظ على بناء اللغة، ونظامها من الفساد بالتأثر باللغات الأخرى أوأهلها الداخلين إلى الإسلام. وبناء على هذا الهدف فقد طفق - كما هو معلوم- النحاة واللغويون في جمع اللغة والأشعار وتأملها، ومحاولة استنباط قواعد تلك اللغة، وسواء نظر النحويون الأوائل إلى الخطاطة اليونانية في علوم اللغة والكلام، أو إلى النحو السرياني أو كان عربيا صرفا كما يرى بعض الدارسين، فقد كان النحو منذ نشأته الأولى يجمع في تكوينه بين منهجين: الأول: وصفي يقوم على وصف الظاهرة اللغوية الذي انبنت منها القاعدة النحوية، والتي تعني هنا الشعر أو النص النثري، والثاني: تحليلي يقوم على التفسير والتعليل والشرح، والاستشهاد، والتدليل مما يعني تكوين بناء حجاجي عقلي، ونظام فكري تطرد من خلاله القاعدة، وتكون مقنعة للمتلقي بحيث تسلم النظرية النحوية، من جهة ويسلم معنى التركيب للجملة من جهة أخرى. وقد كانت هذه العلة، وهذا التفسير أمرين مهمين في البناء النحوي، أديا إلى انتشار الحجاج والجدل، وسؤال البحث عن العلة مما يتصل بعلم الكلام في البحث العلمي في ذلك الوقت كما أديا إلى التوسع في التعليل والعمل العقلاني النحوي حتى أصبح هذا التعليل والتفسير جزءا من البحث النحوي يتفاضل النحويون في البحث عن علله، كما يسر بعض الناظرين في تقليب العلل حتى تكاد تكون أهم من الحكم اللغوي نفسه. نجد في الحكاية التي أوردها صاحب كتاب الأشباه والنظائر يقص بها حادثة وقعت في مجلس المهدي، فقد سأل المهدي اليزيدي عن سبب النسبة إلى البحرين بحراني ونسبوا إلى الحصنين فقالوا حصني ولم يقولوا حصناني كما قالوا بحراني، فقال اليزيدي: إنهم لو نسبوا إلى البحرين فقالوا بحري لم يعرف إلى البحرين نسبوه أم إلى البحر، ولما جاءوا إلى الحصنين لم يكن موضع آخر ينسب إليه غير الحصنين فقالوا: حصني.
فقال الكسائي لرجل بجانبه في المجلس لو سألني الأمير لأخبرته فيها بعلة هي أحسن من هذه، فقال اليزيدي للأمير: إن هذا يزعم أنك لو سألته لأجاب أحسن مما أجبت به قال فقد سألته: فقال الكسائي: إنهم لما نسبوا إلى الحصنين كانت فيه نونان فقالوا: حصني اجتزاء بإحدى النونيين من الأخرى، ولم يكن في البحرين إلا نون واحدة فقالوا: بحراني.
هذا الجدل ليس على الصحة والخطأ، وإنما على تعليل الحكم الذي يعلم المتحدث والسامع أنه اجتهاد، وأن واضع اللغة لا يعلم عنه شيئا وإنما لإقناع السامع بصحة الحكم، وقد بلغ من قيمة هذه العلة أن الخليفة يسأل عنها، وأن يتنافس النحويون في البحث عنها وكأنها حقيقة، ولكن الأمر المهم أنها تتعدد، وكل واحد منهم يبطل علة الآخر ليضع علته مما يبين مقدار الجدل الذي دخل الدرس النحوي، وجعل كثيرا من علماء النحو يصنفون في علماء الكلام يأتي على رأسهم الخليل بن أحمد.
وقد أسهم هذا كله في أن يتحول النحو من أداة لتصويب الكلام إلى وسيلة لتصويب الفكر، واللغة نفسها، وصحة الكلام ليس من جهة اللفظ والبناء وإنما من جهة استقامة المعنى للتركيب أجمع، وهو ما وسع دائرة الوظيفة النحوية وأدخلها في إطار معرفة صحة الكلام من خطئه على جميع المعايير. هذه الصفة للنحو نجدها في كثير من الشواهد القديمة من مثل قول الشاعر:
النحو يبسط من لسان الألكن
والمرء تعظمه إذا لم يلحن
فهو لا يعلم المتكلم تمييز الخطأ من الصواب، ولكنه أيضاً يبسط من لسان الألكن، والألكن هوالذي يعسر عليه الحديث أو فيه لكنة، وهي اللهجة القوية التي تمنعه من الفصاحة وهذه ليست وظيفة علمية بقدرما هي وظيفة تدريبية عملية.