كنت طرحت سؤالا عن علاقة بنية العقل بتكوين العقل، وافترضت أن البنية هي صلب التكوين، ولذا لا معنى أن يختلف التكوين عن البنية، إلا إذا كانت كما يذكر الجابري مستنبطة استنباطا دقيقا من التكوين، فأصبحت هذه الأقسام الثلاثة قارة في العقلية العربية في عصر التدوين، وكنت قد سألت سؤالا عن مراد عصر التدوين، ورأيت أن الجواب يحتمل أن يكون النصوص المجموعة أو الكتب المؤلفة، ولكن لأنه يرى أن العصر المسيطر على الذهنية العربية هو عصر التدوين وحسب، ليس العصر الجاهلي ولا صدر الإسلام، ولا الأموي، الذي كانت النصوص تمثل المنتج في تلك الأزمنة وإليها تعود، فإن هذا يعني أنه يقصد الكتب المؤلفة، ولذا فإن السؤال المطروح هنا الذي أشرت إليه من قبل، هو عن المكونات التي كونت تلك الكتب المؤلفة في ذلك العصر.
المعلوم أن هذه الكتب قد وضع أغلبها في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري أي بعد سنة 150 وهي مرحلة تعد متأخرة نسبيا عن فتح الأمصار، ودخولها تحت سيطرة المسلمين، وبدخول تلك البلاد تكون كل المعارف، والكتب قد وقعت تحت أيدي المسلمين، وأيدي علمائهم ومتعلميهم، وهو ما يجعل الجزم بعدم معرفة العرب بتلك العلوم والاطلاع عليها أمرا عسيرا. نحن نعلم منذ وقت مبكر أن الصحابة اطلعوا على المرويات التي في كتب أهل الكتاب وقارنوها بما لديهم في القرآن وحديث الرسول، ورووا خاصة عمن أسلم منهم ككعب الأحبار وغيره، ويروى أن ابن إسحاق كان يسأل أبناء اليهود الذين أسلموا عن بعض أحداث خيبر ويقارنها بما لديه من مرويات. ومعلوم أن بعض خلفاء بني أمية وأمرائها كان معنيا بالعلوم الطبيعية، وكتب الفلسفة، بل يروى أن أول الكتب التي ترجمت إلى العربية عن فكر اليونان وثقافتهم كانت عن الفارسية في زمن الأمويين، وإن لم يتم الجزم بأن المنطق كان منها، مما يعني أن هذه الكتب التي ألفت في القرن الثاني لم تكن بمعزل عن رياح التأثر.
وسواء كان القياس البياني من القياس البرهاني أو ليس منه، فإن البحث من وجهة نظري ينبغي أن يتجه إلى النظر في تأثر العلماء المسلمين العرب بمن سبقهم من العلماء من الأمم الأخرى عن طريق الاختلاط بهم والتباحث معهم في المسائل التي يشتركون بها ما دامت تضمهم بيئة واحدة، أو من العلماء المسلمين ممن ينحدر من أصول غير عربية ولديهم في أصولهم علوم ومعارف كالفرس أو الروم أو القبط. وليس من المتصور أن هؤلاء العلماء قد نسوا لغاتهم الأولى بمجرد تحولهم إلى الإسلام، أو توقفوا عن الحديث بها، والرواية التي رويت عن الفارابي في مجلس سيف الدولة من أنه يحسن أربعين أو سبعين لسانا، وما ذلك إلا أنه ولد في فاراب من إقليم تركستان. وهذه اللغات فروع أشبه ما تكون بلهجات لأناس يعيشون في مواضع متقاربة يتخذونها أداة لأحاديثهم اليومية.
وإذا كان الفارابي وهو في القرن الثالث والرابع لا يزال يحسن لغته الأولى، ويضيف إليها لهجات أخرى، فما الأمر في أناس حديثي عهد بتعرب وإسلام من العلماء في القرن الأول أو الثاني. بل إن الدارسين المعاصرين يذكرون أن جبل لبنان لم يتعرب إلا في القرن الثاني عشر في حين ظل ساكنوه طوال مدة التاريخي الإسلامي يتحدثون بلغاتهم المحلية.
وإذا ثبت أن علماء اللغة والأدب وسواهم في ذلك العصر قد تأثروا بما كتبه السابقون، وتباحثوا به، فإن هذا يعني أنهم قد تأثروا بطرائقهم بالتعليل والاستنباط، والتحليل والوقوف على القواعد، وأن العقل العربي قد تكون أساسا من تلك المطالعات مقرونا بهذه الملاحظات، وعليه يصبح العقل العربي عقلا واحدا وهو العقل الذي اطلع على علوم الحضارات السابقة، وتأثر بها , وأنشأ على منوالها علوم العربية.
ونظرا لهذه البداية فقد انقسم العلماء بعد ذلك إلى قسمين: قسم اكتفى بتلك المطالعات الأصلية، وجعل جل نظره في الكتب التي نشأت في القرن الثاني الهجري مع مطالعات لا بأس بها في علوم اليونان فيما بعد، وقسم من العلماء واصل مطالعاته في علوم اليونان، وتعزيز أداته مباشرة حتى يستطيع أن يحكم المعرفة النظرية لتلك العلوم الأصلية التي اطلع عليها القدماء. الأمر الذي جعل الفارق بين أولئك العلماء يتسع فبعضهم صنف في اللغوين مع ظهور تأثرهم باليونان كما لدى قدامة بن جعر، وحازم وقسم كانت آثار ملاحظات السابقين وتعميقها هي الغالب على بحوثه من مثل العسكري وابن رشيق. وهذا القول ينسحب على العلوم الأخرى التي زامنت هذه العلوم في النشأة وطريقة التطور.
ومن هنا نجد أن العقل العربي واحد والفرق نسبي في ظهور ملامح فكر اليونان أو أفكار العرب التي وضعت في القرن الثاني. على أن كثيرا من مؤرخي تاريخ العلوم عند العرب يرون أن ملامح المنطق اليوناني ظهرت في العلوم العربية بشكل أكبر في القرن الرابع والخامس بعد تأسيس دار الحكمة وظهور أجيال من التراجمة والفلاسفة العرب، مما جعل هذه العلوم مبذولة في العربية لكل من رغب بها، وهو ما يعزز عدم انفصال الطريقين في وعي العلماء في تلك الحقبة، ويعزز القول بالنتيجة التي نريد أن نصل إليها وهي أن العقل العربي لم يكن أحادي المصدر في تأسيسه وإنما تعاورت عدة مكونات عربية خالصة، ودينية وخالصة ووافدة متنوعة في تكوينه، ومن ثم تشكيل بنيته الواحدة ولكنها ليست بنية صلدة لا يمكن تفكيك عناصرها وفهمها كما يبدو من كلام الجابري.