حسب أرقام المركز الدولي للدراسات في التطرف الموجود في العاصمة البريطانية لندن، فإن نحو 12 ألف مقاتل أجنبي من 74 بلدا مختلفا التحقوا بالتنظيمات المتطرفة في العراق وسوريا،
وهو ما يشكل أكبر تعبئة أجنبية منذ حرب أفغانستان في الثمانينات. ومعظم هؤلاء المقاتلين الأجانب يأتون من بعض دول الشرق الأوسط والمغرب العربي دون نسيان عدد الأوروبيين الذين هم في تزايد، إذ قدره المنسق الأوروبي لمكافحة الإرهاب بـ»حوالي 3 آلاف»، بعدما كان تحدث عن حوالي ألفي مقاتل أجنبي في تموز....
فالتصدي للمقاتلين الأجانب، هو أحد أوجه الكفاح «الشامل» (الأمني والإنساني والاحترازي والعقائدي) ضد تنظيم «داعش»، كما حددته واشنطن وحلفاؤها. فهؤلاء الملوثة قلوبهم الذين يأتون من جميع دول العالم وبأعداد لا يمكن أن تتصور للتدرب والقتال في مناطق النزاعات، تثير مخاوف مشروعة بسبب الخطر الذي يشكلونه لدى عودتهم إلى دولهم.....وهذا كلام تقرؤه في كل صحف ومجلات العالم وتشاهده في كل قنوات العالم كل يوم وبطريقة غير مسبوقة؛ فالإرهاب رغم الضربات التي تلقاها في السنوات الأخيرة ما زال يثبت للعالم قدرته على التأقلم وحشد الأتباع الذين تلوثت قلوبهم وأفئدتهم، والمطلوب في هذه المرحلة تعاون دولي مستمر لإزالة المسببات، وقد أعلن خادم الحرمين الشريفين في مبادرة حميدة وتاريخية وفي كلمة ألقاها نيابة عنه وزير الإعلام عبدالعزيز خوجة بمناسبة عيد الفطر للسنة الماضية، عن دعمه للمركز الدولي لمكافحة الإرهاب بمبلغ 100 مليون دولار من أجل إعادة تفعيله تحت مظلة الأمم المتحدة؛ ونوه خادم الحرمين الشريفين إلى أن المملكة قد تبرعت للمركز حين الدعوة لإنشائه بمبلغ 10 ملايين دولار إلا أنه شهد تراخياً في تفعيله الجاد، مناشداً كل الأمم الأخرى المشاركة في دعمه ومؤكداً أنه لن يرضى أي مخلص بأي تردد في دعم هذا المشروع العالمي. وكان خادم الحرمين قد دعا إلى إنشاء المركز في فبراير من عام 2005، خلال فعاليات المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب الذي استضافته الرياض. والأمل أن تلحق بقية الدول الأعضاء في المنطقة الدولية بهذه الريادة وأن تؤدي أمانتها في إنجاح عمل هذه المؤسسة؛ ثم في كلمة مسجلة وجهها، للأمتين الإسلامية والعربية والمجتمع الدولي أكد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز أن المتخاذلين عن أداء مسؤولياتهم التاريخية ضد الإرهاب من أجل مصالح وقتية أو مخططات مشبوهة سيكونون أول ضحاياه في الغد، وكأنهم بذلك لم يستفيدوا من تجربة الماضي القريب، التي لم يسلم منها أحد. ودعا الملك عبدالله بن عبدالعزيز، قادة وعلماء الأمة الإسلامية إلى أداء واجبهم والوقوف في وجه «من يحاولون اختطاف الإسلام وتقديمه للعالم بأنه دين التطرف والكراهية والإرهاب»، ولأن الإرهابيين، «شوهوا صورة الإسلام بنقائه وصفائه وإنسانيته، وألصقوا به كل أنواع الصفات السيئة بأفعالهم، وطغيانهم، وإجرامهم».
إن إزالة «داعش» من الوجود عملية مصيرية وطويلة الأمد بمعنى أنها صعبة جداً، فلا يكفي استئصال الإرهابيين وسفاكي الدماء الملوثة عقولهم وقلوبهم، محبي قطع الرؤوس فحسب، بل لابد أيضاً من التأثير على عقول البشر وهذا هو الاستثمار الحقيقي والعاجل. العنف في مناطق عدة في وطننا العربي والإسلامي هو عبارة عن موجات متكررة ودائمة باسم الدين، وهو عبارة عن مغناطيس يجذب بعض أبنائنا وشبابنا ويودي بهم إلى الهاوية، بل ويجذب حتى بعض أبناء الجيل الثالث من الجالية المسلمة المقيمة في أوروبا والولايات المتحدة بل وحتى أستراليا. فلا يمكن الاستخفاف بهذه الداهية العظمى ولا الإعذار، فنحن مهددون في ديننا وأوطاننا وتاريخنا وثقافتنا ووجودنا بين الأمم، وهذا التهديد يأتي من جماعات منحرفة متطرفة مثل «داعش»، و»جبهة النصرة»، و«بوكو حرام» و«أنصار الشريعة»، و«القاعدة» وغيرها من التنظيمات المتطرفة في سوريا والعراق واليمن وسيناء وليبيا ومالي ونيجيريا، ومنطقة جنوب الصحراء الأفريقية... وهي كلها مسميات لإرهاب واحد حيث يضع مريدوها للانتهازية عنواناً من الدين، ويقدمون للظلم وسفك الدماء البريئة تبريرات منه، ويعطون لأفعالهم وأعمالهم وجشعهم أسماء من الشريعة والشريعة منهم براء...
ولله در «أبو زيد الإدريسي» الذي كتب عن أمثالهم وعن أصحاب الغلو، أن أحد أبرز مظاهرهم هو الجهل بالطابع المركب، الذي خلق الله به الأشياء، ورتب به القوانين، وبالتالي أدرك به العقل هذه الأشياء والقوانين، فبنى على ذلك المفاهيم بطريقة مركبة.....
ومبدأ البيعة والطاعة هما الأساسان لدى هياكل التنظيمات «الجهادية»، فيقدم منظروها ومريدوها خطابات تدعي أنها إسلامية -والإسلام براء منها- وتتوسل بالعنف المسلح لتحقيق غاياتها الظاهرة والباطنة، وترى أن آليات الإصلاح تتم عبر انتزاع السلطة باستعمال السلاح والتقتيل، سواء في عقر أوطانها أو في الأوطان الغربية... فالتيار السلفي الجهادي يضع نفسه كتيار عالمي دونما حاجة إلى أوامر تأتي من أعالي جبال أفغانستان؛ والقاضي الفرنسي جان لوي بروغيير المختص في شؤون إرهاب «القاعدة» يكتب في هذا الباب: «المشكلة مع القاعدة تكمن في أن شبكاتها مدوّلة جداً، وتضم ناشطين متطرفين من السلفيين الذين انتموا إلى منظمات (محلية).... ثم غادروها لينضموا إلى الجهاد من دون أن يكون ذلك مرتبطاً ببلد أو دولة معينة، وإنما لتعميم الجهاد على المستوى العالمي». وهذا هو المشكل. أضف إلى ذلك، هذه الشريحة من الناس تظن أنها تمتلك الحقيقة المطلقة وأن إيديولوجيتها خلاصية في الدنيا والآخرة! كما أن من سماتها الاستمرارية كما يكتب أحدهم: «فعندما ضُربت الحركات الإسلامية المسلحة عقب اغتيال أنور السادات في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي بدؤوا بالهجرة إلى أفغانستان، وعلى إثر الانتصار على الاتحاد السوفياتي سعى البعض لتكرار التجربة (أي النصر)، إما في الداخل أو في الخارج... وكل مرتكبيها كانوا ممن لهم سابق خبرة في أفغانستان. إلا أن عدم تحقيق العنف لهذا الهدف، دفع إلى التحول إلى مواجهة «العدو البعيد»، فبدأت أعداد المتطوعين العرب تتزايد في مناطق القتال مثل الشيشان، والبلقان، والفلبين... إلخ، ووقع تفجيرا كينيا وتنزانيا عام 1998، وأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، التي على إثرها وإثر الهزيمة في أفغانستان عاد تيار العنف الإسلامي ليواجه «العدو القريب» مرة أخرى، وهذا ما برز عبر قيامه بأعمال عنف في عدد من المدن الرئيسية العربية والدول المجاورة، ومن ثم زاد زخم التيار في العراق بعد الاحتلال الأميركي عام 2003، وانتقل منه إلى مناطق أخرى في العالم».
ثم ما دامت هذه الفرق «الداعشية- القاعدية» تدعي لنفسها احتكار الحق وتزعم أنها على جادة الإيمان وترمي غيرها باتباع الباطل! فإن المشكلة العظمى إذن في عقولها وتكوينها وجهلها، بمعنى أن المنظومة التربوية والتعليمية والتكوينية في مجتمعاتنا أفرزت مثل هذه الفيروسات الخطيرة.
وبغياب هذا التطوير التربوي والتعليمي في مدارسنا وجامعاتنا سنبقى عرضة لغلو «داعشيين» كثر قد يخرجون في كل حقبة. إن مؤسساتنا التربوية هي الحاضنة التي تصنع فيها العقول والأجيال والمستقبل، ومن دون إعادة النظر في بعض مناهجنا، فإننا قد نقدم للبشرية أناساً قلوبهم وعقولهم كالحجارة أو أشد قسوة يقتلون ويقاتلون على عروض الدنيا، ويتصارعون من أجل تأويلات لفظية، ويتخلخلون في توافه المسائل، وينغمسون في سفاسف الحياة، ويفتقدون أية رؤية تكاملية للحاضر وأية رؤية بصيرة للمستقبل.