تعود عبارة «الشرق شرق والغرب غرب ولن يتلقيا»، إلى الشاعر الإنجليزي روديارد، ولو تأملنا تلك المقولة في التاريخ الطويل بين الشرق والغرب لوجدنا فيها عدة اختلافات جوهرية من أهمها الحكمة الشرقية الثابتة والفلسفة الغربية المتغيره، وحالة الستاتيك أو السكون في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفنية في الشرق العربي، ومراحل التغيير وتعاقب المراحل في مختلف نواحي الحياة الغربية.
بسبب تلك المفارقة بين الجمود والحراك، تبرز ظاهرة الرصد المتواصل للمتغيرات الطارئة في بلاد الغرب من قبل مراكز البحث المعرفية، وقد تعلمنا في الحاضر الكثير عن ثقافتنا الإنسانية في القرون الماضية من الرحالة الغربيين، بينما لم تخرج مؤلفات الشرق العربي من مدار تاريخ السلطة ودهاليزها، وظلت بعيده عن رصد الظواهر الكبرى، بينما يستخدم الغربيون أساليب الحفر المعرفي بحثاً عن مختلف الظواهر الإنسانية والطبيعية في حياة الشعوب، وقد نستثني جهود العلامة ابن خلدون في وصفه لظاهرة الدورة العصبية في الدولة العربية.
تابعت طرح بعض المهتمين بالشأن الاقتصادي واستخدامهم لمصطلح المرض الهولندي لتشخيص الوضع الاقتصادي في الوطن ودول الخليج، وإن كنت أستثني بعض الإمارات الخليجية من حالة الاقتصاد الريعي، فقد استثمروا كثيرا في بناء بدائل مستقبلية عن النفط، بينما لم نحرك ساكنا في ذلك الاتجاه، وكأننا جماعة تستعد للرحيل إلى عالم أو مكان آخر، لكنني مع ذلك أعتقد أن استخدام ذلك المصطلح لوصف الحالة العربية ليس في محله لأسباب سأذكرها لاحقاً..
كان أول من نشر مصطلح المرض الهولندي مجلة «الإيكونومست» البريطانية التي طالعت به القراء في أحد أعدادها الصادرة عام 1977، وذلك عندما تطرقت لموضوع تراجع قطاع التصنيع في هولندا بعد اكتشاف حقل كبير للغاز الطبيعي سنة 1959، ونتج عنها حالة من الركود والاتكالية والبطالة التي نتجت عن تراجع التصنيع بسبب توفر الأموال من بيع الموارد الطبيعية، لكنها مع ذلك لا يمكن مقارنتها بمثل ما حدث في نيجيريا على سبيل المثال..
والسبب أن التركيبة الاجتماعية في نيجيريا تختلف عن هولندا في ظل وجود القبيلة والعصبية وارتفاع الأمية وحالة التخلف الحضاري، لذلك لم تؤدي تلك الثروات الريعية الطائلة فقط إلى إبطاء خطى النمو الاقتصادي الناتج عن العمل والإنتاج، لكنها أدت إلى توليد اتجاهات أو بالأدق بيئات أو مناخات سياسية تنمو فيها النزعات السلطوية وأساليب الحكم الاستبدادية حيث يتم الزواج غير الشرعي بين الثروة والسلطة، وكانت نهايتها مأساوية، بسبب دخول مرحلة الفوضى والصراع السياسي والأيدولوجي..، وتم صرف ثروات طائلة من عائدات النفط لشراء ذمم جماعات المصالح الفردية أو العشائرية أو الفئوية الضيقة على حساب خطط التنمية..، بينما كان الحل سريعاً ومؤثرا في الحالة الهولندية..
في الحالة السعودية، قد يختلف الوضع، فقد حصلت بعض النجاحات الاقتصادية، لكن المرض الاقتصادي الموروث الذي يضرب جذوره في التاريخ الاجتماعي القديم، ظهرت علاماته كما لم تظهر قبل، وقد يكون في الإطار العام مشابه لبعض أمراض المرض الهولندي، مثل البطالة والاتكالية وانتشار بعض أوجه الفساد المالي، لكن الاختلاف أن الوضع قبل النفط لم يكن في حالة إنتاج أو مرحلة تصنيع كما كان الحال في هولندا، ولكن كان في حالة صراع متواصل بين البداوة بمفهومها البيئي واقتصادها الريعي، وبين الحضارة بمفاهيمها المنتجة، والتي كانت تمثل أضعف الفئات في المجتمع العربي القديم في الجزيره العربية.
ساهم الاقتصاد النفطي أو الريعي في الثمانينات الميلادية في انتصار ساحق للإرث الماضوي على الحضارة وظهور المرض العربي القديم في صورة مارد يتغذى ويزداد حجماً على دخل الموارد الطبيعية، وقد كانت طبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الصحراء مهيئة لبروز أعراض المرض العربي المزمن، وقد كانت أعراضه أكثر من بطالة أو اتكالية أو انتكاسة في مصادر الإنتاج، فقد عادت القبلية غير المنتجة في زينة وكبرياء لا مثيل لها في التاريخ العربي، وعاد التطرف الديني في صورة دموية بشعه، وظهرت أيدولوجيات التكفير مسلحة بالعنف والإرهاب، واستخدمت كثيراً من هذه الأموال لتسكين مؤقت أو محاربة بعض هذه السلوكيات الملتهبة..
لهذا السبب لا أرى إطلاق تسمية المرض الهولندي على أوضاعنا الاجتماعية والاقتصادية الحالية مناسباً، فقد كان الهولندي مرضاً أشبه بالصداع الحميد أو بداء الإنفلونزا عند مقارنته بالمرض العربي القديم، والذي ساهم النفط في إبرازه في هذه الصورة الواضحة التفاصيل، والتي يسهل وصفها ونشرها كظاهرة مزمنة وفريدة في التاريخ الإنساني، لكن يبدو أن العقل العربي لا زال يعيش في مرحلة «القص واللزق» للظواهر الغربية المشابهة، بينما لا يستطيع وصف الظاهرة الاقتصادية الأكثر مرضاً في التاريخ الإنساني، ثم وصف العلاج المناسب..