بعد الأحداث الجِّسام في المنطقة، يشعر البعض بالقلق على الوطن ومكتسباته في ظلِّ ما يجري في المحيط العربي من صراع وتمزق وتطرف ومؤامرات سياسيَّة، فالخطر يكاد أن يحدق بنا من كل الاتجاهات، والتطرف يضرب بقوة غير مسبوقة في كلِّ اتجاه، والحسرة تدق أطنابها على إضاعة كثير من الفرص الذهبية للتغريد خارج سرب التخلف والجمود..
ولو أردت أن اختار من أين بدأت مسيرة التفريط بالمستقبل لاخترت عام 1979م، عام الثورة الدينيَّة الإيرانية الطائفية الهوية، التي كانت بكلِّ ما تعنيه الكلمة حركة في اتجاه مضاد لمسار الثورات في التاريخ، فقد عادت بنا إلى عصر الفتنة والاقتتال السياسي في القرون الأولي، وذلك عندما أذنت ببدء مراسم العزاء التاريخي، الذي ضرب رقمًا قياسيًّا في الحزن على وفاة الحسين بن علي مقتولاً..
لم ينل الإمام علي بن أبي طالب بالرغم من موته مقتولاً شيئًا ولو يسيرًا من ذلك الحزن الكبير، وقد وصل الأمر أن تتحول مظاهر العزاء إلى عبادات وحج وحروب مقدسة تحت مسميات الأخذ بالثأر من رموز السنة أو النواصب كما يطلقون عليهم، لتبدأ أكبر عملية إحياء للكراهية في تاريخ العالم، ولتأذن من جديد لخروج المارد السني المتطرف من كهوفه التاريخية، ولتبدأ ردود أفعال متشنجة في تأجيج مشاعر الكراهية من قبل السنة ضد الشيعة، والعكس صحيح.
كان تأثير الثورة الإيرانية الدينيَّة كبيرًا على المجتمعات السنية، وكان ردة الفعل متوقعة، وذلك لوجود أصول في التَّعليم الديني السلفي ثرية بالكراهية والعداء الطائفي للمخالفين والمبتدعة، وكان إحياؤها سهلاً، ولم يحتج إلى جهد، فالعقول كان لديها الاستعداد للتطرف والخروج عن النص، وقد كانت آثار ذلك الأحياء كارثيًا بكلِّ ما تعنيه الكلمة على الاقتصاد والتَّعليم والتنمية، ولطالما ما أعدت في ذاكرتي تلك المرحلة، وأحيانًا تملكني الرغبة في كتابة سيناريو آخر للوطن على طريقة «ماذا لو»..
ماذا لو لم نتفاعل بتلك الطريقة مع الثورة الدينيَّة في إيران، وصرفنا الجهود والأموال على التنمية، وماذا لو نشرنا تجربة الجبيل وينبع في أكثر من موقع، وماذا لو بدأنا أكبر مسيرة تعليميَّة في تاريخ الوطن، وتركنا لهم الخطب الرنانة والنواح ولطم الصدور، واعتمدنا خططًا لتشجيع البحوث العلميَّة، وزيادة معدلات البراءات العلميَّة والاختراعات..
ماذا لو لم نضعف أمام حركة جهيمان المتطرفة، وقررنا المضي في مسيرة التطوير، وعدم فتح الأبواب والقنوات للأصوات الدينيَّة المتطرفة، ماذا لو قررنا عدم المشاركة في الجهاد الأفغاني، وعدم الاشتراك في حروب أسعار النفط، وماذا لو أخرجنا عوائد النفط من الحسابات الاقتصاديَّة، ثمَّ ركزنا الجهود في البحث عن بدائل للاقتصاد النفطي في تلك الفترة.
ماذا لو لم نجاريهم في طائفيتهم، واستثمرنا في الاقتصاد والتصنيع والشركات العملاقة، ماذا لو عملنا على وقف الهجرة من القري إلى المدن، وشجعنا المواطن أن يبقى في مزرعته، وقللنا من تأثير الإقطاع الزراعي على المواطن، والمتمثل في الشركات الزراعيَّة العملاقة..
ماذا لو اعتمدنا خططًا واستراتيجيات لتطوير النظم الصحيَّة نحو نظام صحي موحد، ومترابط بعضه ببعض، ويسّهل من خلاله الاتِّصال بين مراكز العناية الصحيَّة الأولية والثانوية وبين المراكز المتقدمة، ماذا لو أصدرنا قوانين تمنع المتاجرة بصحة الناس، وتسهل افتتاح المراكز الطّبية التي لا تهدف للربح المادي..
ماذا لو صُرفت الثروات في نقل المجتمعات القروية إلى مجتمعات متحضرة، ماذا لو استغللنا تلك الفترة في تطوير الأنظمة الإدارية، ومنحنا المناطق صلاحيات إداريَّة لتطوير منافعها والمشاركة في إدارة تخطيط قدراتها، وبالتالي تشجيع شباب المناطق في المشاركة في التنمية.
وماذا لو تركناهم في غيهم وكراهيتهم وحزنهم، ثمَّ انطلقنا إلى المستقبل حيث الأمل في إرساء قواعد متينة لوطن لا تُؤثِّر عليه العواصف والرِّياح العاتية، تمامًا مثلما فعلت ماليزيا وكوريا الجنوبية، وقبلهما اليابان، ماذا لو فعلنا ذلك؟، هل سنكون في هذا اليوم من التاريخ في مواجهة المارد المتطرف والمتوحش في الداخل والخارج، وفي اتجاه آخر نخسر الثروات والجهود للمشاركة في خطط اقتصاديَّة وسياسيَّة لا نهاية لها ضد التهديد الطائفي الإيراني المزعوم في المنطقة..