أقر تنظيم الدّولة الإسلاميَّة المعروف اختصارًا بداعش أنّه قام بسبي مئات الفتيات والنساء الأيزيديات عندما اجتاح مسلحوه قضاء سنجار مطلع شهر آب الماضي ومن ثمَّ بيعهن في أسواق الاستعباد، وقالت مجلة «دابق»، التي يصدرها داعش باللغة الإنجليزية، في عددها الجديد: إن «نساء الايزيديين وأطفالهم غنائم حرب بعد وقوعهم في قبضة مقاتلي داعش»..
في العصر الحديث لم يعد الرق وما ملكت اليمين أمرًا مستساغًا، بل يُعدُّ من الانتهاكات الجنائية لأبسط حقوق الإِنسان، وأصبحت القوانين الدوليَّة ومنظمات حقوق الإنسان تعتبره جريمة في حق الإِنسان، وأن حريته وكرامته فوق أيّ اعتبار، وإن كانت الدعوة للرق تحمل صبغة دينية، وتستند إلى نصوص.
حسب فهمي المتواضع لا يمكن أن يقبل أيّ إنسان متحضر وواعٍ أن يملك أخاه الإنسان بصك شرعي، ولا يمكن أن تقبل دولة في هذا الزمن أن يكون على أراضيها سوق للنخاسة، تُباع فيه النساء والأطفال، وما يحدث في داعش سببه ذلك السياج المكبل بحراسة مشددة حول حق التفكير بصوت عالٍ حول هذه القضايا.
وتأتي هذه المجاهرة بإعادة مفاهيم أصبحت في حكم التجريم في العصر الحديث، لأسباب من أهمها أننا لم نواجه الماضي، ولم نقر بعد أن بعض المفاهيم الماضوية لم تُعدُّ صالحة لهذا العصر، ومنها حق امتلاك الإنسان للإِنسان، والاعتقاد أن للمسلم دون غيره حق التمتع بنساء غير المسلمين من خلال تملكهن كما يملك الإنسان بضاعته.
علينا ألا نهرب من مواجهة الماضي، وإن لم نواجهه بشجاعة، سيخرج أكثر من داعش، وسيظلُّ الماضي يطاردنا في كلِّ اتجاه، مالم نحدد مواقفنا تجاه بعض الأمور التي عفا عليها الزمن، وأصبحت غير صالحة لمخالفتها للمفاهيم الإنسانيَّة في العصر الراهن، وتستطيع أن تدرك الموقف منها من خلال طرح الموضوع اجتماعيًا، ويدخل أيْضًا في ذلك مواضيع كثيرة منها أحكام التعامل مع غير المسلمين.
تعلَّمنا من علم النَّفْس الحديث أن الإنسان يُصاب بالتوتر إذا لم يواجه ماضيه، وإذا لم يتخذ مواقف محددة من ماضيه، وذلك من أجل العبور إلى المستقبل من خلال حاضر متصالح مع ذاته، وتظهر هذه الأعراض أيْضًا على المجتمعات التي ما زالت تعيش تارة في الماضي، وتارة أخرى في الحاضر، لكنها لم تحدد مواقف بيِّنة من بعض الممارسات الماضوية، التي لم تُعدُّ صالحة لهذا الزمن..
من أعراض المجتمع المتوتر ظهور علامات إصابته بأزمة دفاعية تبريرية عن الرق والسبايا على سبيل المثال، وإن ثبت بالدليل القاطع مخالفتها لنواميس الفطرة الإنسانيَّة، وقد يظهر عليه سمات العصبية والعنف بسبب حالة الصراع التي يمر بها، وتعود الأسباب إلى أن مرجعياته الكبرى لم تتخذ خطوات إصلاحية تجاه بعض القضايا التي كانت وما زالت سببًا لعودة التوتر في المجتمع.
كانت بعض خطواتها الإصلاحية متأخرة ومتعثرة، وجاء الاعتراف بمرجعية حقوق الإنسان بعد معاناة، ولم يكن اعترافًا كاملاً، وجاءت الحلول الاقتصاديَّة متأخرة كثيرًا، وبعد مشاحنات وصلت إلى حد الخطابات العنيفة والتحريم من دون تقديم بدائل، وما زالت كثير من الإصلاحات متأخرة جدًا عن الركب الإِنساني، وتتطلب معالجة حقيقية، وواضحة مع القضايا التي لم يمكن العودة إليها في العصر الحاضر..
ولو عدنا للماضي لوجدنا سلسلة من الأخطاء الجسيمة في حق المجتمع، بدءًا من سلاح التكفير ومرورًا بالمواقف التحريمية الكثيرة ضد مختلف وسائل التطوّر والعلم الحديث والإعلام، وانتهاءً بعدم الاعتراف بحق الاختلاف، والإصرار على مواقف قطعية على طريقة من قال غير ذلك فهو زنديق أو قد كفر..
خلاصة الموضوع أن داعش ومن على شاكلتها ليسوا شذوذًا عن القاعدة، بل إحدى نتائج الهروب من مواجهة الماضي، وفضيلة الاعتراف أن ثمة أخطاء جسيمة قد وقعت، وأن تعبر عن ندمها عن تداعيات بعض المواقف المتصلبة ضد التحديث، وإذا لم نفعل سنظل في مطاردة مستمرة من داعش وغيرها، ولن نصل إلى حالة السلام الاجتماعي من دون اتخاذ مواقف إصلاحية من المرجعيات الدينيَّة الكبرى، ومن علماء الدين الذين يتمتعون بمصداقية في أطروحاتهم الفقهية، والله المستعان..