النزاعات والصراعات والحروب السياسية الشرسة في القرن المنصرم حتى عام 1973م لم تستطع رفع سعر النفط، فمثلا الحرب الكونية الأولى 1914 - 1918 على الرغم من ضراوتها وشراستها..
إلا أن سعر النفط بقي على حاله إلى حد كبير دون ارتفاع، ثم إن الحرب العالمية الثانية 1939 - 1945 هي الأخرى على الرغم من اتساع رقعتها وشدة وطأتها وانجراف معظم الدول الكبرى لدخول ساحتها، فإن النفط على الرغم من أنه كان عصب تلك الحرب خاصة الأمريكي، إلا أن السعر لم يبلغ الثريا خلالها وبعدها.
وبقي النفط على حاله غير مؤثر في ميدان السياسة والاقتصاد الدولي حتى عام 1973 لينهض فارضا إرادته، لتبلغ أهميته ذروتها عندما استخدم كسلاح سياسي واقتصادي لأول مرة، عندما صدر القرار السياسي الشهير بقطع إمدادات النفط عن الدول التي وقفت إلى جانب إسرائيل في حربها ضد العرب في رمضان المبارك من ذلك العام.
ونتيجة لتلك الحرب رفعت الأوبك أسعار بترولها بما يعادل أربع مرات، على الرغم من أنها منذ تأسيسها 1960 عجزت عن ذلك، وأحكمت سيطرتها خلال عامي 1973 - 1974م على الأسعار العالمية للوقود السائل، ونجحت في رفع السعر خلال فترة قصيرة لا تتجاوز الستة أشهر من (2.90) دولار إلى (11.65) دولار للبرميل الواحد.
ومع انطلاقة شرارة الحرب الإيرانية - العراقية 1979 وتدهور سعر صرف الدولار الأمريكي واشتداد ضراوة تلك الحرب وانقطاع الإمدادات النفطية من إيران آنذاك فكانت السبب في ارتفاع الأسعار لتبلغ في عام 1981 مابين 39 و40 دولارا للبرميل.
ومع ذلك فإن النجاح الذي حققته منظمة الاوبك لم يستمر طويلا لتبدأ عوامل الإخفاق تنخر في هذا الكيان الكبير - ولم تعد الريح تهب رخاء، ولم ينته عقد السبعينيات الذي شهد الثورة الإيرانية ويبدأ عقد الثمانينيات الذي نشبت خلاله الحرب العراقية - الإيرانية التي خرجت من رحم ثورة الخميني ، ومع اخذ الحرب وتيرة السجال بين البلدين أصبحت أسعار النفط غير مستقرة، يدخل في تحديدها عوامل عديدة ليس في مستطاع المملكة أو المنظمة إيقافها أو الحد منها، فهبت الرياح العاتية على الأوبك واتحدت الدول الصناعية ضدها وتمكنت من إدخال دول خارج الأوبك إلى حلبة الصراع ليتحد الجميع ضد المنظمة، وخرجت من داخلها أصوات تحمل طابعا سياسيا أكثر منه اقتصاديا، فأصبح عامل هدم الأوبك من خارجها ومن داخلها، فشهدت الأسعار منذ منتصف الثمانينيات التذبذب هبوطا وارتفاعا.
وما جاء شهر مارس من عام 1986 حتى سجل سعر البترول أكبر انخفاض له حيث هبط سعر البرميل ليصل إلى حوالي سبعة دولارات، تزامنا مع هدوء عاصفة تلك الحرب، ولأن أسعار هذه السلعة السحرية أحد أهم أسباب ارتفاع أسعارها الحروب والنزاعات والصراعات، فإن احتلال العراق للكويت أعاد النفط مرة أخرى إلى صدارة الأحداث فارتفعت أسعاره لتكسر حاجز الـ (30) دولارا للبرميل.
وبعد تحرير الكويت وزيادة أوبك لإنتاجها، بدأت الأسعار بالتدني فانحدرت لتبلغ اقل من (10) دولارات للبرميل، وبعد ذلك التدني استجمعت الأوبك قواها لتضع آلية لدعم أسعار نفوطها لتحوم مابين 22 - 28 دولارا بخفض الإنتاج 500 ألف برميل يومياً إذا تدنى السعر عن 22 دولارا للبرميل ورفعه بنفس الكمية إذا جاوز السعر 28 دولارا للبرميل.
ومع بزوغ شمس هذه الألفية وتحديدا مع شن الحروب الأمريكية والبريطانية على كل من أفغانستان والعراق واحتلالهما، جاءت ثورات أسعار النفط المتعاقبة لتكسر حاجز 147 دولارا للبرميل في يوليو عام 2008 على الرغم من أن الاستهلاك العالمي من النفط (حقيقة) لم يشهد ذلك الارتفاع الذي يشفع للنفط بارتفاعه، ولم يتوقف زحف الأسعار حتى هبت عاصفة الزلزال الاقتصادي الكبير في ذلك العام.
اليوم وأسعار النفط تدور مابين 80 و90 دولارا للبرميل مع بقاء الاستهلاك من النفط على حاله تقريبا بحدود (87) مليون برميل يوميا، فإن هذه الأسعار تدعمها حالة عدم اليقين، حيث يعيش العالم متغيرات سريعة، من سياسية واقتصادية واستراتيجية، وتحديدا في المنطقة العربية في العراق والشام حيث تشن المنظمة الإرهابية (داعش) حربا على العراقيين والسوريين، ليتوحد العالم ضد هذا التنظيم المتسلح بالغلو والتطرف والإرهاب، وعلى شاكلته الحوثيون (الشيعة) في اليمن حيث انهارت (قوة) الدولة أمامهم، تحت مظلة طهران راعية المذهب الشيعي، ولا يقل الوضع في ليبيا عن الحال في العراق التي تحولت جميعا إلى دول فاشلة.
السؤال المطروح لماذا هذا الانحدار بالأسعار وبعض أعضاء الاوبك (العراق باحتياطيه 143 مليار برميل ليبيا باحتياطيها 47 مليار برميل) ناهيك عن سورية واليمن وهي تشهد هذه الحوادث المريرة، ونرى سعر النفط يتدنى يوما بعد آخر؟ الإجابة في غاية البساطة، إن جزءا من بترول العراق وسورية واليمن يهرب إلى تركيا وإيران ويباع بسعر بخس (15) دولارا للبرميل وهذا مصدر كبير لتمويل حروب تلك الجماعات، إضافة إلى مصادر تمويلية أخرى لم يكشف عنها بعد، على الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية مثلا تدرك تماما من هو الممول والصانع لتلك الأحداث الجسام على ارض الوطن العربي الرامية إلى تقسيم تلك الدول التي تجري الحروب الأهلية على أراضيها.
عامل آخر أكبر مستهلك للنفط على المستوى الدولي - أمريكا التي تستهلك أكثر من (20) في المائة من إجمالي الاستهلاك العالمي من البترول ارتفع إنتاجها ليبلغ ما بين 10 و11 مليون ب / ي، بل إنها ستصبح مصدرة للنفط، وعامل ثالث أن روسيا وهي منتج كبير تحتل المرتبة الثانية بعد المملكة إنتاجا وتصديرا أخذت تزيد في إنتاجها، كما أن الدول الأخرى خارج الأوبك تنتج كل برميل تستطيع إنتاجه، ودول من أوبك خاصة إيران التي استفادت من تخفيف الحصار الاقتصادي على نفطها زاد إنتاجها ومعها فنزويلا، هذا مع أن سوق النفط الدولية تحتضن فائضا أكثر من (3) ملايين برميل يبحث عن مشترين.
اليوم إذا كانت الرياح قد هبت رخاء على الأوبك ما بين 2003 و2014 التي دخل وسيدخل خزائنها مبالغ فلكية، حتى أن العائدات النفطية ملأت الخزائن وفاضت، عليها أن تسلح سفينتها بمجاديف قوية تمكنها من الإبحار في هذا الخضم المتقلب، ويتمثل ذلك في وحدة كلمة قولها وترابطها ومواجهة الأخطار حزمة واحدة لا تنكسر في اجتماعها في 27 نوفمبر القادم، لتدافع عن أسعار عادلة وتحافظ على حصتها في سوق النفط الدولية (30) مليون ب / ي.
هذه السفينة تحتاج إلى أن تدار دفتها بحكمة وحنكة ومهارة تدعمها خطط مدروسة، ولو أن سفينة الاوبك أحكمت مجاديفها وأحسنت السيطرة على دفتها وسط الأمواج المتلاطمة، فإن السيطرة على الأسعار ليس بعيد المنال، على الرغم من هشاشة الاوبك التي اعتقد في خضم أزمات الأسعار والإنتاج في أواسط الثمانينيات وما تلاها حتى منتصف التسعينيات أنها بدت عاجزة لا حول لها ولا قوة، لكن الحروب والصراعات والنزاعات والتغيرات السياسية مع بزوغ شمس هذه الألفية جعلت للأوبك أنيابا ومخالب قوية.
يجب على الأوبك التي تعاني الأمرين من داخلها في هذه الظروف العصيبة أن تلملم صفوفها على الرغم من التصدع في جدارها من دول مثل إيران والعراق وليبيا.. وعليها سلوك جادة الحوار مع الدول المنتجة خارجها كروسيا والمكسيك والنرويج وغيرها لمصلحة الجميع، لتبحر السفينة بسلام قبل أن تشهد سوق البترول حرب أسعار تلحق الضرر بالجميع.
وفي رأينا على الرغم من تدهور سعر صرف الدولار اليوم مقارنة بسعر صرفه أمام العملات الرئيسية قبل عقدين من الزمن مثلا، فانه من مصلحة الأوبك الحفاظ على سعر مابين 65 - 75 دولارا للبرميل، لتجعل الدول الصناعية المستهلكة للنفط تبعد الفكرة السائدة لديها بأن الأوبك تنتهز الفرص لرفع سعر نفطها وهذه صورة خاطئة ألصقتها الدول الصناعية الكبرى بالأوبك.
لا بد من إثبات عكس ذلك للعالم حتى وان تدنى سعر صرف الدولار أكثر وزاد الطلب على إنتاج الأوبك أو انخفض، ذلك أن استمرار الأوبك في هذا الخط - الحفاظ على سعر عادل - من العوامل التي تحقق الاستقرار للدول المستهلكة ويقنعها بعدم النظر بعين الشك إلى تجاربها الماضية مع الأوبك عندما رفعت الأسعار في السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن المنصرم وفي هذه الألفية، وفي هذا مزايا منها الحد بشكل معقول من الاستثمار في البترول والغاز الصخريين، اللذين ثبت إضرارهما الجسيم بالبيئة والاستهلاك المفرط للمياه، وكذلك في إعادة تأهيل حقول النفط التي سدت بسبب انخفاض الأسعار الذي شجع على عدم الاستثمار في هذه الحقول والبترول والغاز الصخريين، وبهذا أيضاً استقرارا لمداخيل الدول، وبذلك تضرب الأوبك عصفورين بحجر واحد كما يقولون وبالله التوفيق.