دين الله الخالد يكرس العدل والمساواة ويمقت الظلم والقهر، ويحث على الرحمة التي جعلها جلّت قدرته عنوانا لرسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء 107، والرسول صلوات الله وسلامه عليه وصف بها نفسه فقال (إنما أنا رحمة مهداة) رواه ابن سعد والحكيم والترمذي.
بهذا فإن الإسلام يوجب الرحمة، وعلى الشركات والمؤسسات والتجار أن لا يجعلوا أكبر همهم تحقيق أكبر نسبة من الربح على حساب المستهلكين خاصة الطبقة المتوسطة والفقراء منهم، فالإسلام أقام أسس سوق تجارية عادلة يرحم فيها التاجر الكبير المستهلك الصغير، ويقف الناس فيها ضد المحتكر الظالم.
وهذا عكس الفلسفة الرأسمالية التي مهندسها سميث وزملاؤه التي يسيطر فيها الأقوى فالرأسمالية منحت الفرد من الحقوق في المال حتى احتكر وطغى على حساب المجتمع ومصالحه الضرورية، والنظام الاشتراكي الذي جاء به كارل ماركس ليصلح ما أفسده النظام الرأسمالي، فقد سلب الإنسان كل شيء وقدمه على طبق من ذهب للمجتمع الذي ماهو (إلا صورة)، أما المالك لكل شيء فهي الدولة، لتصبح النتيجة في دولة الاشتراكية أن أفرادا معدودين في تلك الدولة الظالمة التي تعتبر أن الدين أفيون الشعوب هم المالكون فطغوا وتجبروا على الناس، وأصبح العالم حتى انهيار الشيوعية يعيش في ظل رأسمالية طاغية واشتراكية قاتلة وخرج من رحم الرأسمالية الاحتكار المرير الذي انتزع أرزاق البشر.
والاحتكار (الخبيث) له تاريخه فالفترة مابين 1860 - 1880 هي فترة نشأته، وهذه النشأة ولدت أصلا من سوق المنافسة الحرة، وما أن غابت شمس القرن التاسع عشر حتى أصبح الاحتكار من أهم قواعد الحياة الاقتصادية وتوارت المنافسة العادلة.
ورغم أن دول النظام الرأسمالي أصدرت العديد من القوانين الصارمة التي تحرم التكتل والاحتكار في العديد منها، إلا أن هذه الآفة (الخطيرة) (الاحتكار) ترفع رأسها عاليا عقدا بعد آخر، ومنها قانون (شيرمان) 1890 الذي يعد واحدا من أهم القوانين التي وقفت في وجه الاحتكارات، وقانون التفرقة بين الاتفاقات الاحتكارية الحسنة والسيئة 1926 في فرنسا، وقانون 1914 الصادر عن حكومة (فيمان) الألمانية الذي أجاز حل كل الاحتكارات.
وإذا كانت تلك القوانين قد حرم بعضها الاحتكارات تحريما صريحا وآخر عمل على الحد من سطوتها وتقييد حركتها لصالح الشعوب، فإن الولايات المتحدة الامريكية راعية النظام الرأسمالي أصدرت من جانبها قانونا بعد الأزمة الاقتصادية العالمية التي هبت على العالم مابين عام 1929 - 1933، هذا القانون الذي صدر عام 1933 أيد نشوء الاحتكار، وفي ألمانيا في زمن النازي هتلر 1933 شجع الاحتكار ولم تتأخر فرنسا عن الركب ففي الفترة مابين 1938 و 1939 ساد الاحتكار في ذلك البلد، وهانحن اليوم نعيش في عالم احتكار باحتكار على حساب الفقراء والطبقة الوسطى حتى بلغ أمره الحلقوم.
السؤال المطروح هل نحن في ديارنا العربية نعيش في أسواق يمكن أن نطلق عليها اصطلاح الاحتكار؟.. الإجابة بنعم إلى حد كبير من وجهة نظرنا خاصة مع ضعف الأجهزة الحكومية التي أسست أصلا لحماية المستهلك في زمن اعتداء المحتكرين على حقوق المواطنين، في غذائهم ودوائهم وكسائهم ومعظم حاجاتهم، حتى أصبح المواطن اليوم يعيش حالة من الذعر في حياته أمام ارتفاع الأسعار شهرا بعد آخر مدعومة بتضخم يدفع الأسعار هو الآخر كما يندفع السيل العارم مع غزارة الأمطار ليجرف كل ماهو واقف أمامه.
اليوم المواطن في ظل احتكارات قتلت روح المنافسة الشريفة حتى يلبي احتياجاته الشهرية يجب أن يضع يده في جيوبه كلها.. ويفاجأ أنها أصبحت فارغة من المال قبل أن يعد الأيام لاستلام مرتبه، لأن الأسعار ترتفع أسرع من قفزات الغزلان.
فاتورة التلفونات الأرضية مثلا مبالغ فيها مع تدني الخدمة وأسعار المكالمات (للجوال) هي الأخرى لا تقل عن زميلاتها الأرضية وأصبح المستهلكون في قبضة شركات الاتصالات تنسق فيما بينها لاحتكار السوق على حساب المواطن ولا رقيب ولا حسيب في ظل احتكار (القلة)، الذي في ظله يحتكر عدد قليل سلعة معينة للتأثير لرفع ثمنها.
اما احتكار الغذاء والدواء ووسائل النقل المستوردة من السيارات وغيرها فحدث ولا حرج، الوكلاء الحصريون الذين حصلوا على الوكالات الحصرية أو غير الحصرية، أصبحوا (حيتانا) كبيرة تأكل الأخضر واليابس، فاليوم يشتري المواطن سلعة بسعر وما أن ينتهي العام إلا والأسعار قد زادت بنسب كبيرة، رغم أن المملكة مثلا تتقاضى رسوما متواضعة كجمارك على البضائع المستوردة، والموزع الوحيد وغيره من المحتكرين استفادوا لعقود عديدة من ميزة رسوم الجمارك الرمزية التي لا تتوافر إلا في بلادنا وبعض دول مجلس التعاون ومع ذلك تبقى أسعار المنتجات خيالية تقصم ظهر المواطن، بل إن سلعة ثمينة كالذهب والمجوهرات عامة تدخل البلاد أحيانا كثيرة دون أن يفرض عليها رسوم فالتهريب معروف أمره لا يخفى على أحد.
ولذا فإن صرخات المواطنين من عاهة الفساد انضم إليها شكواهم من غواية المحتكرين، التي هي الأخرى يترتب على شيوعها بطالة وكساد ومحسوبية ورشوة وغش وتدليس، وحري بجهات الرقابة لدينا ونخص منها وزارة المالية ووزارة الصحة ووزارة التجارة والصناعة وهيئة المواصفات والمقاييس أن تفعل على الأقل ما قامت به أمريكا في عام 1914 عندما أصدرت قانون (كلايتون) الذي تصدى للممارسات الاحتكارية بل إن ذلك البلد الرأسمالي أسس جهازا رقابيا (الهيئة الاتحادية للتجارة) من أهم اختصاصاتها مكافحة الاحتكار، ومن جانبها فإن وزارة العدل في ذلك البلد دعمت الجهود السابقة فأنشأت إدارة خاصة لمكافحة الاحتكار.
واذا عرفنا خطورة الاحتكار على المجتمعات فإن هذا يؤكد أنه ظلما بواحا للناس يجب أن يقاوم ويحارب لتسلطه على رقابهم إذ تمارسه رموز (القوة المالية) المحتكرة على الغلابة والمساكين لتحقيق أرباح فاحشة نتيجتها الحتمية إلحاق الأضرار بالمستهلكين، ولا يمكن لأي قانون إنساني أن يقر احتكار أي سلعة يحتاجها المجتمع في حياته اليومية كالغذاء والدواء والسكن والخدمات العامة كالماء والكهرباء والاتصالات الهاتفية ووسائل النقل كالسيارات المستوردة والحديد والأسمنت..الخ.
هذا لأنه لا شيء أسوأ من احتكار تلك السلع والخدمات التي يحتاجها الناس وكل أرباح فاحشة حصل عليها المحتكرون من جراء احتكارهم تعد من قبيل الظلم لا تقل خطورته عن الرشوة والفساد واستغلال النفوذ.. الخ.
والواقع المعاش في سوقنا السعودية أن الوكلاء أو (الموزع الوحيد) والشركات الكبرى كالاتصالات وشركات المواد الغذائية والأدوية ووكلاء السيارات والبنوك وغيرها، تفرض سعرها هي على المستهلكين الذين لا خيار لهم سوى القبول وهو شبيه بما يعرف بالقانون (بعقود الإذعان) وهذا لايستطيع أن ينكره إلا مكابر أو متعصب تمنعه عصبيته عن قول كلمة (حق).
إن هذا يعد مخالفة صريحة لقواعد المنافسة الحرة الشريفة ويصبح محل مساءلة نظامية يطبق عليه النظام المطبق في المملكة والذي يشمل أيضا الخدمات الصحية كالمستشفيات الخاصة وشركات الاستثمار والتمويل وغيرها.
ولكن ماهو الحل؟ إن بلاد الحرمين الشريفين هي الدولة الوحيدة في هذا العالم التي دستورها القرآن والسنة، والدولة هي التي ترعى وتدعم القطاع الخاص فلا قيود ولا ضرائب تفرض عليه، بل إن جميع مناقصات الدولة ترسي عليه وهو المستفيد أولا وأخيرا، وبذا يمكنها بسهولة مراقبة هذا القطاع الضخم ومنعه من الاحتكار، فالدولة عن طريق سلطة القضاء وجهات الرقابة المالية والتجارة والصناعة والصحة وغيرها تستطيع تحديد قيمة السلع كلها ونسبة الأرباح العادلة، بتطبيق مبادئ الاقتصاد الإسلامي، القائم على مبادئ الشريعة الإسلامية الغراء التي تمنع احتكار السلع وعدم استئثار فئة قليلة بخيرات المجتمع دون الفئات الأخرى، وحرمت الشريعة الإسلامية الاحتكار قال تعالى (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) سورة النور 188
إن واجب الدولة في الشرع الإسلامي أن تتدخل لمنع الاحتكارات وتحديد الأسعار ونسبة الأرباح، لأن الدولة هي أداة تحقيق العدل، والدين الإسلامي لا يحمي أي مال ظالم، والاحتكار البشع ظلم، والظلم لا يرفعه إلا الدولة العادلة التي تطبق شرع الله.
إن مكافحة الاحتكارات ليست بالمهمة السهلة فهي لا تقل عن الوقوف في وجه الفساد الإداري والمالي .. فالمحتكرون أصحاب خبرة لاتبارى في التحايل على الأنظمة والقوانين ولي عنقها لإدارة مصالحهم، وهذا أمر معروف في الدول المتقدمة والدول النامية، فالدول الكبرى ومنها أمريكا الرأسمالية عانت هي من الاحتكارات كثيرا رغم أنها سيدة هذا النظام سيء السمعة، لكنها عندما زاد جور شركة الهاتف الشهيرة ATT الاحتكارية تصدت لها الحكومة الأمريكية لتحمي مواطنيها، واستمر النزال بين الطرفين إحدى عشر عاما لينتهي إلى حل تلك الشركة الكبرى المسيطرة احتكاريا ليخرج من رحمها شركات عدة أقل حجما لتتحقق منافسة مقبولة.
إننا إذا نظرنا إلى واقعنا اليوم ومع تغير الأحوال في احتياجات الإنسان لوجدنا أن المواطن صاحب الدخل المتوسط يعاني من مواجهة متطلبات الحياة المتعددة.
المواطن تطارده فواتير الكهرباء والماء
واذا قدر له أن يستقدم عاملا أو سائقا أو عاملة منزلية فإن التزاماته المالية سترهق عاتقه لا محالة من رسوم للتأشيرة وأتعاب مبالغ فيها لمكاتب الاستقدام ورسوم تجديد إقامة ومكتب عمل.. الخ.
واذا كان لا يملك دارا تأويه فإن إيجار شقة متواضعة سيلتهم معظم راتبه الشهري.
وإذا قرر اقتناء سيارة بالقسط فسيأن تحت وطأة سعرها المرتفع جدا مقارنة بعشر سنوات مضت، ناهيك الزيادة المبالغ بها بالسعر بسبب نظام التقسيط.
فأصبح المواطن اليوم تحت وطأة مطرقة وسندان الاحتكارات والوكيل والموزع الوحيد المحتكر.
والله المستعان