من يعرف مدينة نيويورك لا شك سيعرف جزيرة روزفلت، وهي جزيرة صغيرة جدا إلى جوار جزيرة مانهاتن، مساحتها طولا تصل لحوالي ثلاثة كيلومترات وعرضها في أقصى اتساع لها لا يتعدى ثلاثمائة متر . وروزفلت ليس الاسم التاريخي لهذه الجزيرة وإنما حملت قبل أن يطلق عليها هذا الاسم عام 1971م الكثير من الأسماء.
بدءا من أسماء هندية (لهنود حمر كانوا يمتلكونها)، ثم أسماء مستعمرين من هولندا وإنجلترا . وتتبع هذه الجزيرة بلدية نيويورك، كانت وخاصة خلال القرن التاسع عشر الميلادي مدينة سجون ومستشفيات عقلية ونفي للمجرمين وغيرهم. وكانت هذه الجزيرة وراء اكبر قصة تخفٍّ صحفي في تاريخ الصحافة، ليس لرجل ولكن لامرأة شابة عمرها في بداية العشرينيات.
في شهر سبتمبر من عام 1887م، حضرت فتاة شابة أمام محكمة الشرطة في نيويورك على أنها فتاة مجنونة بمصطلحات تلك الحقبة وبشهادات الإثبات في تلك المحكمة، سألها القاضي عن اسمها قالت «براون» ومن خلال نظراتها تشير إلى أنها فاقدة لإحساسها بالواقع، وكانت هذه الفتاة قد اقتادها رجلان من الشرطة من فندق صغير كانت تسكن فيه، وأثارت حركاتها ونظراتها الريبة عند النزيلات، وخشوا على أنفسهن أن تجز هذه الفتاة رؤوسهن وهن نيام، مما دعا إدارة الفندق أن تستنجد بالشرطة لتقتاد الفتاة إلى محكمة الشرطة للبت في أمرها. ولم يجد القاضي بدا في بادرة عطف على هذه الفتاة إلا أن يستدعي مندوبي الصحف علهم يعلنون عنها، فلربما يأتي أهلها أو أقارب لها لأخذها، ونشرت جميع صحف نيويورك التماسات لأهل الفتاة لأخذها، عدا صحيفة نيويورك وورلد لصاحبها جوزيف بوليتزر التي كانت تعرف تماما أن هذه الفتاة هي مراسلتهم المتخفية التي تريد أن يتم ترحيلها إلى مستشفى الأمراض العقلية (البيمارلستان) في جزيرة بلاك ويل، وهو مستودع مدينة نيويورك للمخبولات والمتخلفات عقليا (هكذا كان يوصف في كتاب ديفيد راندل «المراسلون العظماء» الذي ترجمه ثائر ديب) .
كانت هذه الفتاة قد ولدت في بنسلفانيا من أب قاضٍ اكتشفت والدتها بعد وفاته انه كان متزوجاً من امرأة أخرى وله خمسة عشر ابنا وابنة من كلتا الزوجتين، وعملت أولا في كتابة مقالات في صحيفة بنسلفانيا ديسباتش، لكنها لم تجد ضالتها، فتركت مكتبها في تلك الصحيفة وأخذت كتبها وأوراقها، وكتبت ملاحظة «ابحثوا عني في نيويورك».. وبعد أشهر استطاعت أن تقنع مدير تحرير صحيفة نيويورك وورلد أنها ستكون مراسلة لهم متخفية في أول مهمة صحافية لها، وتم اختراع اسم صحافي لها اشتهرت به حتى وفاتها «نيلي بلي Nellie Bly». وقبل أن تبدأ الفتاة الصحافية مهمتها للتخفي لمعرفة ما يدور في مستشفى الأمراض العقلية للنساء، كانت قد رتبت مع أحد مسؤولي نيويورك ومع صحيفتها بعدم مقاضاتها فيما ستنشره عن هذا المستشفى، كما رتبت آليات استعادتها من المستشفى خشية أن ينساها التاريخ هناك . وعندما وطئت قدماها الشاطئ ارتابها خوف وشجاعة، خوف مما سترى وشجاعة لأن مهمتها لم يقم بها رجال صحافيون لكنها تنافسهم في هذه المهنة أول امرأة صحافية في صحف نيويورك في ذلك العهد.
اكتشفت هذه الصحافية وحشية منقطعة النظير في مستشفى الأمراض العقلية لم يكن أحد يصدق ما يدور داخل ذلك المستشفى السجن من تعذيب وضرب وحرمان من الأكل ومن ركل واستهزاء وشتم وسباب وخنق أحيانا وموت لبعض نزيلات المستشفى. واكتشفت أن الأطباء هناك ليسوا على مستوى مهني، فقد كشفتهم عند وصولها حيث لم تعد تدعي الجنون بل كانت بأفضل مستوياتها العقلية، ولكن نتيجة كشف ثلاثة أطباء عليها أفاد اثنان بأن حالتها ميئوس منها تماما، وأفضل هؤلاء الأطباء أوصى بتحويلها إلى أجنحة من الحالات الخفيفة، واكتشفت كذلك وجود نزيلات بكامل مستواهن العقلي.
وبعد عشرة أيام جاء وفد الصحيفة ليستخرجها من المستشفى وكتبت صفحتان تحت عنوان «عشرة أيام في مستشفى الأمراض العقلية» سجلت به أكبر تحقيق استقصائي في ذلك العهد وما تلاه تقريبا، ثم تم إعادة نشر التحقيق مرة أخرى.. ثم انغمست في تحقيقات أخرى وكانت متخفية عن موضوعات مثل ادعائها أنها خادمة تبحث عن عمل لتعرف حياة الخدم في المنازل الأمريكية، وتظاهرت أن لديها طفلاً لا تريده لتكشف أساليب بيع الأطفال، وتظاهرت بأنها مومس لتكتب عن بائعات الهوى، وتظاهرت أن زوجها يتعقبها لتكتب عن مشكلات المخبرين الخاصين، وتظاهرت أنها لصة ليتم سجنها وتكتب عن أحوال السجينات، وتسللت إلى مصنع لتكتب عن حالة العبودية داخل المصانع، وقضت ليلة في أحد أوكار المخدرات، وفضحت رجلاً كان يدعي التنويم المغناطيسي، ثم فضحت أطباء نيويورك حيث شكت حالتها المرضية لسبعة أطباء مختلفين وكل واحد منهم كتب لها وصفة مختلفة... كل هذا كان ينشر أسبوعيا، وقد تمكنت هذه الصحافية من أن ترفع أرقام توزيع واشتراكات صحيفة نيويورك وورلد إلى أرقام قياسية.
لكن أبرز وأشهر ما أقدمت عليه هو فكرة طرأت ببالها في أن تدور حول العالم في أقل من ثمانين يوما، حيث جاءت هذه الفكرة من وحي رواية الأديب الفرنسي جول فيرن الذي كتبها تحت عنوان (حول العالم في ثمانين يوما) عام 1873م. وقد رفضت الصحيفة فكرة مشروعها بحجة أن هذا العمل لا يمكن أن يقوم به إلا رجل، لكنها قالت حسنا سأذهب لصحيفة أخرى وسأهزم رجلكم الذي ستختارونه، فاضطروا أن يسايروها، وفعلا قررت البدء في هذه الرحلة من نيويورك متجهة شرقا في 14 نوفمبر عام 1889م، متجهة إلى لندن واضطرت أن تؤخر رحلتها أسبوعا في أوروبا رغبة منها في لقاء الروائي الفرنسي جول فيرن صاحب رواية حول العالم في ثمانين يوما، ثم مرت بفرنسا وإيطاليا ومصر وبالجزيرة العربية ثم القارة الهندية والصين واليابان، ثم اتجهت عبر المحيط الهادئ إلى سان فرانسسكو ثم عبر قطارات قطعت أمريكا إلى أن وصلت إلى نيويورك في حفاوة كبيرة واستقبال باهر في كل المدن الأمريكية التي كانت تمر بها. وقد قطعت رحلتها حول العالم في اثنين وسبعين يوما..
لقد حققت هذه الشابة الصغيرة في السن وهي في العشرينات ما لم تحققه أجيال من الصحافيين في عهدها والى اليوم تقريبا، وأصبحت أشهر صحافية في العالم في الكتابات الاستقصائية، وفي عمر الخامسة والثلاثين تزوجت من رجل أعمال عمره تسعة وستون عاما، حتى سخر منها زملاؤها حيث قالوا إنها ربما تعيش حياة تخفٍّ استقصائي جديد في زواجها.. وبعد وفاة زوجها انقطعت عن الصحافة وبدأت تعمل في مصانع ورثتها من زوجها وأنجحتها تجاريا، ولكنها فيما بعد تركتها لآخرين يديرونها مما سبب إخفاقا كبيرا لها أودت إلى إفلاس شركاتها، مما اضطرها أن تسافر إلى النمسا هربا من المحاكمات القضائية ضدها، وفي الشهر الأول لوصولها إلى النمسا نشبت الحرب العالمية الأولى في النمسا، فعادت إلى العمل الصحافي تراسل صحيفتها واستمرت حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.. وقد توفيت نيلي بلي عام 1922م وهي في السابعة والخمسين من عمرها من مرض في الرئة.