جميعنا قد سمع عن مبدأ (فرّق تسد)، ذلك المبدأ السياسي الاستراتيجي الذي تنتهجه بعض الدول الغازية أو الاستعمارية، والذي يسعى لتفريق جماعة معينة وتحويلها لأقطاب متناحرة؛ لكي تنهك بعضها بعضاً، ويسهل السيطرة عليها جميعاً فيما بعد.
ذلك المبدأ واضحٌ وصريح استناداً إلى قناعات وأخلاقيات وأهداف ممارسيه، لكن المثير للحنق قبل الدهشة أن يكون هناك من يريدون الفرقة، ولا ينشدون السيادة! فهل هناك من يهوى العبث المحض؟ أو يحلم بإيجاد تناحر لا مبرر له (حتى وإن كان المبرر لا أخلاقياً)؟. ذلك تماماً ما هو حاصل في ساحتنا الرياضية بكل أسف.
فالمتابع لمجريات الأحداث يعجز عن تحديد مستفيدٍ لكل هذا الشحن الجماهيري الحاصل الآن. فأسباب وحدة المنتمين لهذا الوسط الرياضي آخذة في التآكل في مواجهة سيل أسباب التنافر، بل نقول أسباب التباغض. فوسائل التواصل الاجتماعي أصبحت تغص بعبارة مسيئة قالها شخص متعصب، يلبس دور المحلل، استنقاصاً بمنافس، أو بوصف مسيء، قاله قصيرُ نظرٍ نكاية بخصم كروي أو بجمهوره.. ولسهولة انتشار الإساءة في هشيم العقول الجاهلة أصبحت تلك العبارات أو الوصوف هي الشغل الشاغل للوسط، وهي التي يسال لها حبر الأقلام، وتستهلك من أجلها ساعات البث التلفزيوني أو الإذاعي.. ويا ليتها اقتصرت على حدود مجتمعنا فقط، بل تعدت ذلك لتصبح إما عامل تندر لعقلاء دول الجوار أو عامل جذب للجهلاء منهم؛ ليقتحموا تلك النقاشات المقيتة طمعاً في بقعة ضوئها المخجلة.
الغريب في الأمر أن شكل وأدوات الحوار والتحليل قد اختلف جذرياً، مغيراً بذلك تلك المفاهيم المنطقية التي خُلقت لأجله. فالمدح لم يعد بتعداد حسنات المُجدّ، وشرح كيفية وصوله لتلك الإجادة، بل أصبح نكاية في الخصوم، وتلويحاً بنقائصهم. والنقد الباحث عن وضع اليد على مكامن الخلل أصبح تعرية للمخطئ وتشويهاً له ولكل من يمت له بصلة من قريب أو بعيد.
الوضع الحاصل لم يعد مضحكاً أو مسلياً أو حتى مخجلاً، بل تعدى ذلك لمرحلة الخطر الحقيقي على تركيبة فئة كبيرة من المجتمع يعوَّل عليها الكثير مستقبلاً. فترسيخ مبدأ الخلاف والفُرقة والعداء في أنفس الشباب هو ترسيخ لثقافة التعامل مع الخلاف والاختلاف، تنتقل معهم لميادين حياتية مختلفة خارج الميدان الرياضي. فالرياضة الآن أصبحت تجهز لنا نماذج من المواطنين الذين يعجزون عن التآلف سوياً في ظل وجود اختلافات بالرأي.. نماذج ترغب في تدمير من لا يوافقها أو لا يعتنق ما تؤمن به. فالرياضة يا سادة كانت - وما زالت - ساحة حياة مصغرة بجميع تناقضاتها، لا يمكن فصل أخلاقياتها وسماتها عن بقية مناحي الحياة في نطاقات أوسع، قد تضر المجتمع بأكمله ثقافياً ومجتمعياً بل حتى أمنياً! فبدلاً من حلمنا بتخريج شباب ذوي هممٍ (عالية)، ينشدون (علو) ورفعة وطنه، سنجد أنفسنا أمام قنابل جاهزة للانفجار في كل مجال تنافسي أو عملي أو حتى مجتمعي يتطلب اعتناق مبدأ الاختلاف والتآلف مع الضد.
نعيد ونكرر بكل أسف: (وسطنا الرياضي فرّق أطيافه، ولم يسُد من خلاله أحد).
خاتمة...
ولا خَيْرَ في حُسْنِ الجُسُومِ وطُولِها...
إذا لم يَزِنْ حُسْنَ الجُسُومِ عُقُولُ