عين العرب في أقصى الشمال العربي تفصلها آلاف الكيلومترات عن مدينة أوسلو في أقصى الشمال الأوروبي، أو طوكيو في أقصى الشرق الآسيوي، لكن فارق الرؤية بينها يزيد عن بضع سنوات ضوئية.
منذ أكثر من سنة، و بعنف متزايد ومتجدد يحتدم القتل والنحر والقصف والنسف حول عين العرب (كوباني)، و هي ليست أكثر من قرية كبيرة وأقل من مدينة صغيرة. عرب وكرد و ترك بائسون معيشيا ومتخلفون حضاريا، أريد لهم أن يتقاتلوا على بقعة تماس بين دولتين و ثلاثة أعراق. يسمونها مدينة استراتيجية، وبالتأكيد ليس لكثرة مواردها و أهميتها و إنما لسوء حظ أهلها و جوارها. الأشياء التي تجمع بين كل العناصر المتقاتلة أقدم وأقوى بكثير من تلك التي تفرقهم، فكلهم بائسون وفقراء وجهلة
ومتخلفون علميا وملعوب بهم وعليهم. الأعجب من كل ذلك أنهم جميعا محسوبون على الإسلام السني، أو يدعون ذلك.
منذ زمن طويل جدا، وتحديدا في الجغرافيا الإسلامية، تحولت الشعوب إلى وقود رخيص لأهواء الحكومات والقادة والفقهاء،
ومازال الأمر مستمرا بوتيرة أشد وأعمال أقبح، ومرشحا لما هو أطول وأشد قبحا.
على العاقل أن يسأل على ماذا يتقاتل هؤلاء البؤساء وهم أتباع نفس الديانة والمذهب والجغرافيا وأبناء نفس القدر من الفقر والجهل. واقع الحال يقول إن مصالحهم المتواضعة متشابكة ومتماثلة، وأن البؤس ماثل في عيون كل أطفالهم بنفس الوضوح،
وأن الأفق الكالح تجاه المستقبل هو هو، نفس الأفق.
هم يزعمون أنهم يتقاتلون على ثوابت، هكذا يوسوس في آذانهم، و لو سألت أي مقاتل منهم عن ثوابته لأحالك إلى وليه الفقيه أو مرشده الشرعي، و هذا هو الذي يحبب إليه الموت ويكرهه في الحياة، ليستمتع هو بالحياة بعيدا عن النيران والقذائف.
واضح في حالة عين العرب (كوباني) أن العقل والعلم و التعايش والحضارة قد طلقت سكانها بالثلاث، فتزوجوا الموت بالمجان
وعلى الأحياء أن يشبعوا فقرا ومذلة وتسلطا تحت الاستغلال الحكومي والطبقي والفقهي. لا حاجة للمزيد من الكلام لتصوير بؤس عين العرب في أقصى الشمال الجغرافي العربي، و بؤس كل المجتمعات الإسلامية التي تنتمي إليها عين العرب.
لكن ماذا عن الأحوال في أقصى شرق وشمال الكرة الأرضية؟. الآن، أي في نفس اللحظة التاريخية التي يحتدم فيها البؤس
ويجتهد ملاك الموت بكل همة في الجغرافيا الإسلامية، يسجل التزاوج بين العقل والعلم و التعايش والحضارة حدثين في منتهى الأهمية لمستقبل البشرية.
في أقصى شمال الأرض، في أوسلو حصل عالم نرويجي شاب مشاركة مع زوجته و مع باحث أمريكي يعمل في جامعة بريطانية، على جائزة نوبل في علوم الطب والحياة (البيولوجي). استطاع العلماء الثلاثة تحديد الكيفية التي يعمل بها الدماغ للتعامل مع الأبعاد المكانية التي تحيط بالجسد، ليس جسد الإنسان فقط بل وبما يشمل أدمغة جميع الحيوانات الثديية. اكتشف الثلاثة وجود خلايا عصبية متخصصة في التواصل فيما بينها، لتنسج ارتباطات رياضية هندسية عن كل وضع يكون فيه الجسد في ذات اللحظة التي هو فيها، ثم تطابق المعلومة مع الذاكرة السابقة في الدماغ، وكل هذا يتم والكائن لا يدري بما يدور داخل دماغه.
بهذه الطريقة يستطيع الكائن الحي فورا إدراك واقعه المكاني، أين هو وبأي تموضع، وهل صح أم غلط. اتفق العلماء الثلاثة على تسمية هذه الخلايا: خلايا المكان.
أنت تصحو من النوم فتدرك بدون تفكير أنك في السرير، على جانبك الأيمن أو الأيسر، و أين مكان أطرافك من جسمك
وسريرك، ثم تغادر مرقدك فتجد نفسك فورا واقفا على قدميك فوق الأرض، ثم أمام المغسلة، منحنيا أو معتدلا، و تتذكر ما هو أمامك وخلفك وعلى يسارك و يمينك، دون التفات أو تفكير.
المثير في الموضوع هو أن العالم النرويجي الشاب يضطر لاستكمال أبحاثه أن يعمل لعدة شهور في السنة في معهد ماكس بلانك في مدينة ميونخ الألمانية، لأن الألمان لوحدهم لديهم المجهر (الميكروسكوب) الذي يمكنه من العثور على خلايا المكان تلك
وتصويرها، ثم يسافر إلى النرويج لتبادل المعلومات مع زوجته الباحثة في أوسلو، و بعد ذلك إلى بريطانيا لتدارس النتائج مع زميله في نفس التخصص هناك. إذا لدينا ثلاثة علماء بجنسيات مختلفة يعملون على مشروع واحد في ثلاث دول مختلفة، للاستفادة التكاملية من الإمكانيات الموزعة بين هذه الدول. المؤكد أنه ليس بين هذه المدن عين عرب ولا عين ترك ولا عين عجم، و عين الحسود فيها عود.
التوقعات العلمية تركز على أن هذا الفتح العلمي الجديد سوف يقدم إسهامات متميزة لتشخيص وعلاج أمراض الذاكرة، ومنها خرف الزهايمر على سبيل المثال.
في نفس الوقت أيضا حصل ثلاثة علماء يابانيون على جائزة نوبل في فيزياء الضوء والإضاءة، أحدهما يعمل في جامعة أمريكية والآخران في اليابان. حصل الثلاثة على نوبل لأنهم استطاعوا تركيب الضوء الأبيض الكافي للإضاءة من مصابيح ثنائية القطبية بألوان مختلفة. هذه التقنية تجعل تكاليف الإضاءة أرخص بعشرات المرات من المصابيح الكهربائية المتوفرة حاليا وتجعل المصباح الجديد أطول عمرا بمئات المرات وتمثل إسهاما متميزا ضد التلوث البيئي الناتج عن صناعة المصابيح الكهربائية بالطرق القديمة.
الخلاصة: كل العيون العلمية الحضارية تتابع حاليا في اتجاه طوكيو وأوسلو، ماعدا عيون المسلمين، فهذه مسلطة على عين العرب، وكل واحد يرى بعين طبعه وعقليته وفهمه للحياة.