تأملت قول الأحنف بن قيس «ما عاداني أحد قط إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث خصال؛ إن كان أعلى مني قدراً حفظت له قدره، وإن كان دوني قدراً رفعت قدري عنه؛ وإن كان مثلي تفضلت عليه بالعفو».
وقد تبدو هذه الخصال لممارس الحياة اليوم من العناصر المعطّلة, خاصة عندما يكون هناك ركض نحو الأزمنة المنهوبة؛
وعندما تتحول بعض المواقف إلى حالات من الطوارئ, وتهزمها تعددية طباع البشر, واختراع مترادفات جديدة للقيم النبيلة ربما ألبستها ثياباً بالية, وقد كانت تغذي تصحر النفوس وضجرها؛ وأصبحت اليوم طرائق قدداً؛ وقد يكون ذلك وليد التنظيم ولعله وليد السلطة المكانية, أو من محصّلة التأسيس الثقافي أو الاجتماعي المتفاوت بين الناس.
ولم يعد المبتغى سوى كلف الناس بالحواشي دون المتون؛ ورجّح البعض أن يملكوا أنفسهم دون عقولهم, وإن طوّق الأسى وجوه الآخرين, وأصبحت بلا ملامح, ليس فيها ماء فضل ولا فضيلة؛ وتصدّرت الطاقات السلبية؛ وضعف جهاز المناعة؛ في خضم نظام آلي لا يقيم للعلاقات الإنسانية وزنا؛ وتحولت الساحات والفضاءات إلى منابت أثرة؛ لا إيثار حتى في صياغة الخطاب الإنساني؛ عندها نتفق مع منطق الوعي المجرد الذي يقول: إن شجرة واحدة تنتج مليون عود ثقاب؛ ولكن عود ثقاب واحد يحرق مليون شجرة؛ أفلا تستحق المجتمعات الإنسانية أن يحميها العقلاء من الحرائق؟، فلابد أن نركب قطار الأحنف بن قيس في تعامله مع المواقف المضادة, ونستورد مستراداً دائم الإخضرار؛ منابعه القيم الإسلامية النبيلة؛ قال الحكيم الخبير (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) سورة آل عمران (134)
وأمره جلّ وعلا (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) سورة الأعراف (199).
وفي مواقع الشموخ والقوة الممكّنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من العليم الخبير عندما دخل عليه السلام إلى مكة فاتحاً منتصراً؛ سأل كفاّر قريش من قومه؛ ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا أخ كريم وابن أخ كريم, قال صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
وفي موقف ظللته رقة الرجاء بوصفه نتاج أخطاء سلفت؛ ولأن رسول الله تلقاها تلقياً ذوقياً رفيعاً فأعجب صلى الله عليه وسلم ثم عفا وخلع بردته على الشاعر المخضرم كعب بن زهير عندما قال:
نبئت أن رسول الله أوعدني
والعفو عند رسول الله مأمول
مهلا هداك الذي أعطاك نافلة القرآن
فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم أذنب
ولو كثرت فيّ الأقاويل
ويقول الإمام علي رضي الله عنه: (أعقل الناس أعذرهم للناس)
ونستحضر قول الإمام الشافعي:
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى
ودافع ولكن بالتي هي أحسن
وفي رؤيتي المتواضعة؛ أن ثمة حضوراً قويّاً للعفو والصفح؛ حملته أجيال قبلنا؛ وأسهم في تشكيل رؤية الإنسان لتلك القيمة الإسلامية الأخلاقية العظيمة؛ وأنها أصبحت في رهن أوقاتنا الحالية مطلباً لتسيير الحياة وأفلاكها؛ لأن عقابيل الحياة ومنهجية التعامل مع الناس اليوم أصبحت تعيد نفسها بأشكال مختلفة أثناء الاستنتاجات اللاحقة, أصبحت منطلقاً لفهم الأحوال؛ فمن طرح رأياً مخالفاً فهو عدو؛ ومن أيّد صار أشد شراسة؛ ومن نشر واستطلع الآخر فذاك مائل كل الميل.. فتغلغلت الاختلافات, وسدّت منافذ التواصل في إلهام الناس؛ وأصبح الاقتداء بالمسيء ديدن معظم المواقف؛ وقد يسعى الإنسان للاقتداء بالشواهد غير المضيئة للانغماس في اضطرابات لو قُيّدت لكان خيراً لها ولصاحبها.
وعندما نكون خلف تلك الجدران المائلة؛ وفوق أراض قاحلة؛ وتقابلنا ذرائع معتادة بأن هناك أمور تخفى علينا لابد أن نتجاوزها؛ ونكون من الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس. والعفو عن الآخر لا يعني أنك على خطأ؛ ولكنه حضور باذخ لتقدير العلاقة؛ خاصة عندما تكون الجذور رطبة ندية؛ ويكون الوجدان استثناء في علاقته وعلائقه؛ حيث خلع نعليه بالمكان وراد واستراد؛ واستجاب وأجاب؛ ولكن أيامه لم تتحمل الرقعة والتفاصيل, حتى يئس من ذاته كما يئس الكفار من أصحاب القبور.
بوح في ذات السياق، يقول النابغة الذبياني:
ولست بمستبق أخا لا تلُمه
على شعث أيّ الرجال المهذّب