الطبيعة البشرية تحب الرأي والموقف، فالموقف سهل والتحليل صعب. الرأي يتعامل مع خلاصة حكايات بها أخيار وأشرار، تلك مهمة سهلة التلقي.. لكن التحليل يتعامل مع معلومات وأبحاث وبيانات إحصائية كأنه رياضيات.. من يحب الرياضيات؟
عندما تذهب إلى الطبيب: هل تفضل أن يستظرف ويثني على حالتك أم يحللها ويشخص عللها حتى لو أزعجتك؟ الجواب واضح، ولو كان التشخيص يثير الهلع فأنت لا تعتبر أن الطبيب ضدك حتى لو أخطأ فقد تعتبره فاشلاً أو طريقة تحليله فاشلة. لا أحد يشك بنوايا الطبيب إلا في حالات نادرة. لماذا، إذن، تثور ثائرتنا إذا لم يعجبنا تحليل كاتب وقد نخونه أو نكفره وفي أقل الحالات نشكك في نواياه، وقلما نقول إنه محلل فاشل أو طريقة تحليله فاشلة أو أن أدلته غير كافية؟ ربما بسبب صعوبة التفريق في القضايا العامة بين التحليل والنقد من جهة وبين الموقف والرأي من جهة أخرى، خاصة في ثقافتنا العربية الراهنة، لأن التحليل يؤدي إلى استنتاج (أو نقد) الذي بدوره قد يفضي إلى رأي.
أو ربما لأننا لم نتعود على سماع تحليل مختلف عما ألفناه. سأعود للطبيب مرة أخرى.. في أحد المجالس شكوتُ لطبيب صديق من بطني وقلت إنه بسبب إني شربت لبناً بعدما أكلت سمكا، وذلك معروف في تراثنا المحلي.. فاستشاط غضبا، وقال: كيف تقتنع بهذه الخرافات الشعبية وأنت باحث علمي، ما علاقة هذا بذاك؟ قلت: اقنعي مغص في بطني يأتيني كلما شربت لبناً بعد سمك، فهل يمكن تحليل هذه العلاقة؟
التحليل ببساطة عبارة عن عملية تفكيك لموضوع معقد (أو لمادة) إلى أجزاء أصغر لاكتساب فهم أفضل له؛ يتم عادة كأساس للنقاش أو لتفسير ظاهرة ما. فالعملية تبدأ بالتفكيك وتنتهي بالتفسير وليس بالضرورة تؤدي إلى موقف محدد بقدر ما تؤدي إلى توضيح. لكننا نشهد في الفضائيات والإنترنت حوارات في التحليل السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي، يحدث فيها خلط كبير بين التحليل والموقف.
نجد مثلاً أن المضيف يطرح سؤالا تحليلياً على المحلل فيزج المجيب بموقفه السياسي دون تحليل، أو على العكس يجيب بطريقة مناسبة فيتعجب المضيف مما يظنه موقفاً من الضيف رغم أنه ليس موقفاً بل تحليلاً! المضيف هنا يتناغم مع صدى غالبية المتابعين، فهم يريدون حكاية لا رياضيات. اقرأ التعليقات على مقال تحليلي بحت، تجد أن أغلبها لا تناقش التحليل بل تناقش الموقف السياسي للكاتب، بحثاً عن بطل القصة الطيب أو الشرير وليس عن تحليل البيانات الممل!
المشكلة اعتيادية حتى تصطدم بالإيديولوجي، فهي تتفاقم معه، ومع المتعصب عموما لأي فكرة. إذا كان الخلط بين التحليل والموقف غير مقصود عند الغالبية، فالإيديولوجي يصر على دمجهما فنتائج التحليل يجب أن تخدم الرأي والموقف، أي أنه في تحليله لا يبدأ بالتفكيك المجرد كحالة منفصلة عن أفكاره المسبقة، بل بالتفكيك الانتقائي لما يصب لصالح فكرته، فهو لا يرى التحليل كتفكيك لموضوع معقد من أجل تفسيره، بل كتلة واحدة تصب لصالح فكرته أو ضدها. أبسط مثال الهجوم الصهيوني الغاشم على غزة قبل أسابيع، كان أي تحليل لا يعجب الإيديولوجي يتعامل معه كموقف عدائي أو متصهين! صحيح أن التحليل الناقد أثناء مواجهة العدو غير مناسب التوقيت، لكن الإيديولوجي يرفضه في أي وقت.
من الطبيعي أن يعلن الكاتب موقفه رفضاً أو تأييداً لهذا الطرف أو ذاك في موقع الرأي والموقف، لكن في موقع التحليل فإن ذلك لا يخدم الموضوع ولا الحوار، وبالتالي لا يساعد في محاولة إفهامنا ما يحدث ولا يفيدنا في أخذ الدروس المستفادة من الأزمة قيد النقاش. الخلط بين التحليل والموقف يحرف التحليل عن بداية المناسبة، فيبدأ من النهاية الظاهرية للأزمة، لأن هذه بداية الموقف وليس التحليل، طارحاً السؤال المشتهى لأية قصة: من هو المسبب؟ على طريقة السبب الواحد وليس العوامل المتداخلة..
ما هو سبب: «الربيع العربي»، سقوط النظام الفلاني، الحركة الانفصالية في منطقة كذا، الاضطرابات أو الحرب الأهلية في بلد كذا..؟ السبب الواحد مريح ومثير كبطل القصة، أما الأسباب المتداخلة مملة كتحليل البيانات.. رغم أننا نعلم أن جذور أية أزمة كبرى يتداخل فيها مزيج من السياسي مع الاقتصادي مع الاجتماعي مع الثقافي..الخ، أما ظواهرها فهي عبارة عن حلقة أخيرة في سلسلة معقدة ينبغي تفكيكها وتحليلها ومعرفة اتصال الحلقة بها.. وهنا دور المحلل بأن يفكك لنا هذا التداخل.
ما يمر به العالم العربي من أزمات طاحنة وردود فعل مذعورة، جعلت منه ظاهرياً عالماً غير عقلاني يصعب تحليله بهدوء، بل إن الهدوء يغدو ضرباً من الخيانة لدى الأطراف المتشنجة، فيُطلب من المحلل أن يتحول إلى خطيب مفوه أو حكواتي ماهر إرضاءً للمتلقي وتأكيد وجهة نظره المتوترة.. هذا الواقع أنتج من ضمن ما أنتج الاعتياد على طريقة عاطفية في التفكير والتحليل تحول الأحداث الواقعية في ذهنية المنفعل إلى قصة تخييلية مشوهة، وعلى المحلل أن ينساق مع هذه القصة.
هنا يلجأ كثير من المحللين إلى المبالغة في استخدام المصطلحات الوجدانية (الكرامة، العار، الشجاعة، البطولة، الشهامة..) والتقليل من المصطلحات الواقعية (المصلحة، الاقتصاد، العلم، الاستراتيجيا والتكتيك..)، وكأن الساحة السياسية قصة درامية بين خصمين، وليس حالة معقدة ضمن سياق سياسي متشابك يرتكز على فن الإمكانية للمصالح العامة والخاصة بجانب احترام الحقوق.
فكما أن المعلق أو المحلل الرياضي لا ينحاز في تعليقه أو تحليله لأحد الفريقين حتى لو كان متعاطفاً مع أحدهما، لأن الجمهور لن يسمح له بالانحياز، كذلك نتوقع من المحلل السياسي أن يقدم تحليلاً عقلانياً منهجياً بعيداً عن الانفعال العاطفي، لكن المشكلة أن الجمهور هنا يطالبه بالانحياز!
لا يقف التحليل العاطفي عند هذا الحد من الخلل المنهجي، بل يتعداه إلى تبرير الأخطاء وعدم الاستفادة من الدروس لتتكرر الأضرار بطريقة تدعو إلى الرثاء.. وتصبح كثرة الحوارات والبرامج والمقالات التي أُتخمنا بها غير ذات جدوى، بل تكراراً وتسجيل مواقف ورصد نقاط كسب للذات ونقاط خسارة للآخر.. ليغدو تحليل الأوضاع العربية الهشة قصة في مهب الريح.