يقول علي عزت بيجوفيتش (أول رئيس لجمهورية البوسنة والهرسك): «البوسنة بلد معقد: ثلاث ديانات، ثلاث قوميات وغيرها. القومية قوية بكل الثلاث؛ في اثنتين منها الكثير من العنصرية والشوفينية والانفصالية؛ والآن نحن يُفترض أن نجعل من ذلك دولة واحدة!»
كيف يمكن المحافظة على وحدة دولة تتنازعها الروح الانفصالية؟ التجارب مختلفة، فالنزعات الانفصالية عادة تستند على الهوية (القومية، الدينية، الثقافية)، وأحياناً على مطالب حقوقية من منطقة تشعر بالتهميش تتحول مع الإهمال إلى مطالب سياسية بالانفصال. وقد يتم المطالبة بالانفصال عبر القوة، أو سلسلة طويلة من المفاوضات والمناورات السياسية، وربما عبر استفتاء عام.. بالمقابل المحافظة على الاتحاد تختلف بين البلدان بعضها بالقوة عسكرياً، وبعضها بالإقناع سياسياً عبر منح سلطات واسعة للمنطقة المعنية، وبعضها بالإغراء اقتصادياً عبر المشاركة بقدر أكبر من الموارد..
للمساعدة على إجابة السؤال أعلاه، يمكن الاستفادة من آخر تجربة طازجة مما شهدناه قبل أيام لنتيجة الاستفتاء في اسكتلندا حول انفصالها عن بريطانيا بنحو 55 % أيدوا الوحدة مقابل 45% للانفصال. كيف تم احتواء النزعة الانفصالية للاسكتلنديين؟ ذلك تطلب جهوداً لسنوات طويلة من الشد والإرخاء. هذه التجربة يمكن الاستفادة منها عبر مقاربتها مع النزعات الانفصالية لبعض أجزاء من منطقتنا مثل إقليم كردستان أو جنوب اليمن. طبعاً، يجب مراعاة كل حالة على حدة، كنزعة الانفصال بجنوب اليمن التي بدأت بمطالب حقوقية واقتصادية ثم تطورت إلى مطالب سياسية إلى أن وصلت إلى مطالبة بالانفصال، في حين أن النزعة الانفصالية للكرد واضحة معالمها القومية.
التجربة البريطانية الأخيرة دارت حول ثلاثة مرتكزات هي: الهوية القومية للاسكتلنديين، والاقتصاد ثم تأثير الإعلام والسياسة فيهما. من ناحية الهوية يمكن إجمالها حسب الاستطلاعات بأن نحو ثلث الاسكتلنديين يعتبرون أنهم بريطانيون بالدرجة الأولى، وما بين ربعهم إلى ثلثهم يعتبرون أنهم اسكتلنديون وليسوا بريطانيين، بينما نحو الثلث يعتبرون أنهم اسكتلنديون وبريطانيون بقدر متساوٍ. الحملات الدعائية توجهت لهذا الثلث الأخير باعتباره المرجح في الاستفتاء مع أو ضد انفصال اسكتلندا عن بريطانيا.
في تلك الحملات تم التركيز على وتر الإيجابيات وليس السلبيات التي وضعت في الدرجة الثانية، لأن السلبيات قد تتضمن إهانة للطرف الآخر ومن ثم استفزاز مشاعر جماهيره.. مثلاً الشعار الأساسي المضاد للانفصال كان «معاً أفضل» دون استخدام التخويف من الانفصال (أي عدم إهانة الهوية الانفصالية)، بل الترغيب بالبقاء في الاتحاد لما فيه من فوائد.. بالمقابل ركزت الحملة المؤيدة للانفصال على الفرص المجتناة من استقلال اسكتلندا وليس سلبيات الاتحاد (عدم إهانة الاتحاديين).
التركيز على الإيجابيات كان ينصب على المسائل الاقتصادية باعتباره أكبر هموم المصوتين، ودار الجدل حول العملة، والنفط، وقطاع الأعمال. هنا أكدت الحكومة الاسكتلندية على بقاء الجنيه الاسترليني بعد الاستقلال، لكن ذلك ما رفضته الحكومة البريطانية. أما النفط في بحر الشمال فقد دارت خلافات حول تحديد القدر الخاص باسكتلندا، ومستقبل المؤسسات المالية والأعمال في الشمال. ولعل الأهم هو تأثير ذلك على دخل الفرد، حيث قدرت الحكومة الاسكتلندية زيادته بنحو ألف جنيه استرليني بعد 15 عاماً حال الانفصال. لكن وزارة الخزانة البريطانية قالت إن بقاء اسكتلندا في الاتحاد سيحافظ على مستويات أقل من الضرائب وأقل في الإنفاق. وقدرت التكلفة التي سيتكبدها المواطن الاسكتلندي عند الانفصال بحوالي 1400 جنيه استرليني بداية من العام المالي القادم وما بعده (بي بي سي).
اللعبة أيضاً إعلامية وتؤثر نفسياً وسياسياً. فقد أظهرت كل استطلاعات الرأي على مدى سنتين تفوق التيار المؤيد لبقاء اسكتلندا في بريطانيا، حتى ظهرت نتيجة استطلاع قامت به صندي تايمز قبل عشرة أيام من الاستفتاء تقدم المعسكر المؤيد للانفصال. هنا حدثت صدمة نفسية وردات فعل عارمة داخل التيار المؤيد للاتحاد الذي كان مسترخياً وضامناً أن النتيجة لصالحه. بعدها ألغى كل من رئيس الوزراء (زعيم حزب المحافظين)، وزعيم المعارضة (حزب العمال) جلسة مساءلة رئيس الوزراء في مجلس العموم وتوجها إلى اسكتلندا. كما لحق بهما زعيم حزب الديمقراطيين الأحرار ونائب رئيس الوزراء. تلك الزيارات حققت زيادة قدرها ثماني نقاط في نسبة من يرون أن اسكتلندا ستكون أفضل حال بقائها ضمن بريطانيا، بحسب خبير استطلاعات الرأي جون كورتيس.
رئيس الوزراء السابق، جوردون براون، وهو من أصل اسكتلندي ويحظى بشعبية عالية في اسكتلندا، قام بدوره أيضاً حين طرح جدولاً زمنياً لزيادة صلاحيات البرلمان الاسكتلندي إذا رفض الاسكتلنديين الانفصال، واعداً بنشر مسودة لقانون جديد لميثاق اسكتلندا الجديد. تبع ذلك مناورات سياسية، إذ وعدت الحكومة البريطانية بمنح اسكتلندا مزيداً من الصلاحيات وسلطات أوسع، والموافقة على إنشاء برلمان خاص لاسكتلندا، للتصويت على شؤونها المحلية (بي بي سي).
كيف نستفيد من ذلك رغم الفارق الكبير للتجربة البريطانية؟ فكرة الاقناع الإيجابي هي أفضل وسيلة على المدى القريب والبعيد وليس القوة العسكرية. كذلك المراهنة على الأوضاع الداخلية وليس الخارجية، ففي التجربة البريطانية أخذ موضوع الاتحاد الأوربي مقداراً ثانوياً في التأثير. من الأفضل للإقناع أن يوجه خطابه نحو منهم في دائرة الحيرة بين الاتحاد والانفصال، وليس التركيز على من حسم أمره ففي ذلك تضييع للجهد. هذا الإقناع يجدر به الابتداء بالجوانب الإيجابية للاتحاد لا السلبية للانفصال كيلا يهين هوية الانفصاليين، وأهم نقطة تعنينا هنا هي الناحية الأمنية التي لم تكن محسوبة بالتجربة البريطانية لأنها متوفرة في كلا الحالتين الاتحاد والانفصال.
بعد ذلك ينبغي أن ينصب التركيز على الفوائد الاقتصادية لا سيما دخل الفرد الذي يظل الهم الأول لأغلب البشر بعد الأمن. وفي حال القول بأن المنطقة المنفصلة مثل كردستان العراق قد تجني أرباحاً اقتصادية أكبر مع الانفصال لأنها غنية بالنفط، فمن المجدي تقديم إغراءات بمنح مزيد من الصلاحيات الاقتصادية وقدر أكبر في المشاركة بالموارد الطبيعية. مزيد من الصلاحيات الاقتصادية يجر إلى مزيد من الصلاحيات السياسية للسلطات المحلية مثلما يحصل أيضاً في كردستان العراق، ليشعر أبناء المنطقة بأن لهم حريتهم المحلية.
في كل الأحوال، يظل أهم عامل لإخماد فتيل الانفصالية هو نزع الشعور بالتهميش والإهمال عبر إزالة أسبابه الفعلية..