مهما تكن أطراف الحوار أو الجهات المعنية به، فالسؤال الذي ينبغي طرحه كما سبق وأن طرحناه في هاته الصحيفة الغراء ومع بعض من وجهاء الفكر والقلم كالأستاذ عباس الجراري هو: «كيف يكون الحوار؟». واختصاراً للإجابة نشير إلى الشروط الآتية:
أولاً: قبول الآخر كما هو، أي قبول الاختلاف معه والاعتراف به واحترامه، مما يستوجب عدم المسّ بمقدساته وثوابت كيانه، دون أي تنقيص منه أو هيمنة عليه.
ثانياً: معرفته على حقيقته.. وهو ما يتطلب تصحيح المفاهيم، والاتفاق على المدلول الحقيقي للمصطلحات المتداولة في الحوار، مثل: المقاومة، الإرهاب، الجهاد، القتال، الأصولية، السلفية الإسلاموية.. وشبيهة بها عبارات مستعملة في اللغات الأجنبية، كالفرنسية على نحو: Islamophobie, Islamisme، واعتبار الإسلام Islam مقترناً بالإرهاب Terrorisme.
وعلى الرغم من أن المجال لا يتسع للتفصيل، فلا أقل من الوقوف عند مصطلح واحد هو الإرهاب.. فمدلول الإرهاب المعتمد عند خصوم الإسلام للطعن فيه واتهامه، والوارد في قوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (60) سورة الأنفال.. لا يعني ما تقصده كلمة Terrorism - Terrorisme، وإنما يعني دعوة المسلمين للتسلح بالقوة، بما يجعل العدو لا يجرؤ عليهم.. وهو أمر مشروع ومتعارف عليه، ومعمول به عند جميع الشعوب، سواء في القديم أو الحديث.. وما السباق إلى التسلح المنتشر اليوم إلا مظهر لذلك.. وإننا لنميل في السياق المُدان للإرهاب، إلى استعمال مصطلح «الحرابة» التي تدل على التعرض للناس واغتصاب أموالهم والاعتداء عليهم.. وهو ما أدانه الإسلام وشدد عقوبته في هذه الآية الكريمة: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (33) سورة المائدة، وفي الحديث الشريف أن «من حمل علينا السلاح فليس منا» «رواه البخاري عن عبد الله بن عمر».
إن الإسلام بمثل هذه الإدانة، يكشف أحد ملامحه السلمية التي لا نحتاج إلى تأكيدها، وهي متجلية في مظاهر كثيرة معروفة لا نطيل بذكرها، وإن كنا نرى ضرورة توضيح موقفه من القتال الذي لم يشرعه الإسلام إلا للدفاع عن النفس.. وذلكم ما تشير إليه الآية الكريمة: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} (39-40) سورة الحـج، إذ المعنى مقدر فيه محذوف هو القتال، أي أُذن القتال للذين يُقاتَلون.. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الآية هي أول ما نزل في هذا الصدد.
ثالثاً: التعاون معه لما فيه خير جميع الأطراف، وذلك بجملة أمور أُجمل أهمها فيما يلي:
1 - مساعدة الطرف المحتاج، في غير تنقيص منه أو تكبّر أو منّ عليه.
2 - على أن تكون هذه المساعدة، ليس بجعل المتخلف مجرد مستهلك لمنتجات الطرف المتقدم.
3 - وإنما بتمكينه من المفاتيح التي تؤهله لمواكبة هذا الطرف في تقدمه.
4 - دون نسيان حل المشكلات التي تعوق كل حوار.. ومن بينها ظاهرة احتلال الأرض، على نحو ما تكشفه قضية فلسطين على الرغم من أن زمن الاستعمار قد ولَّى ولم يعد لوجوده مبرر.. ومن هذه المشكلات كذلك ظاهرة الهجرة التي يعانيها سكان الجنـوب، وهم يتطلعون إلى حيـاة أفضل في بلدان الشمـال، والتي تحاربها هذه البلدان، متناسية ما كان قام به أولئك السكان طوال القرن الماضي، سواء وهم يضحون بحياتهم فيما خاضوا من معارك لتحريرها، أو وهم يبذلون جهد طاقاتهم ويفنون شبابهم في أعمال شاقة بالمعامل والمصانع والمناجم، أو غيرها من الأشغال التي لم يكن أبناء تلك البلدان يقدرون على أعبائها، أو كانوا يأنفون منها.. والجدير بالاستغراب أنه في الوقت الذي تتفق دول الشمال على محاربة هجرة العمال ومن إليهم، فإنها تقوم بعملية انتقائية تقنن بها مشكل الهجرة، إذ تسعى إلى استقدام الأطر العليا والمتخصصة وتشجع عليه.. وهو توجه ترمي به إلى تقوية نفسها، في وقت تعمل على إفقار دول الجنوب وتجريدها من نخبها القادرة والمؤهلة.
5 - ولا يمكن أن يكتمل التعاون المطلوب لإنجاح الحوار، من غير العمل الجاد على تنقية الذاكرة مما يشوبها، وتقديم الاعتذار اللازم عن ذلك، والتعويض عنه إن اقتضى الحال.. وتجدر الإشارة هنا إلى ما عاناه العرب والمسلمون في الحروب الصليبية، وكذا ما قاسوه حين طُردوا من الأندلس.
كما تجدر الإشارة إلى فترة الاستعمار، وما ارتبط بها من قمع وتنكيل وتأخير، ومحاربة للفكر الوطني وقيمه وسائر مكونات هوية الأمة.. يُضاف إلى ذلك كل المحاولات التشويهية التي توجه ضد الإسلام والمسلمين والقرآن المجيد، والنبي الكريم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، على نحو ما تكشفه أعمال شنيعة، كالرسوم التي تسيء إلى رسول الإسلام.. ومثلها ما صدر عن قداسة البابا من أحكام ضد المسلمين وما أنتجوا من ثقافة وحضارة، في وقت تتم الدعوة إلى الحوار الإسلامي - المسيحي، على أساس من الاحترام المتبادل والقيم المشتركة.
6 - ولقد أخذت ردود الفعل لدى المسلمين تجاه كل أشكال العدوان على ديارهم.. والضغوط الاقتصادية على شعوبهم، والافتراء على دينهم مظاهر شتى.. منها انبثاق الحركات الأصولية، والعنف ضد الأنظمة الوطنية المنقادة، أو الملاينة للهيمنة الغربية، لا سيما بعد أن أصبحت هذه الهيمنة تجسّدها القطبية العالمية.. وكان رد الفعل واضحاً في الموقف الأصولي، الذي انتهى إلى إنشاء «قاعدة» لزعزعة الأمن، في العالم بنشر خلايا الإرهاب، وتدمير المنشآت واغتيال الأبرياء داخل المجتمعات الغربية أو الإسلامية على حد سواء.. وذلك كله باسم «الإسلام».. ولا شك في أن التداعيات التي أفرزتها أحداث إرهابية مروعة في عدة جهات من العالم، فرضت على الحكومات الوطنية في البلدان الإسلامية الأخذ بمنطق الهاجس الأمني.. فضلاً عن الدول الغربية التي طالها الإرهاب وغدا كابوساً يهيمن على حياتها.
ومهما بلغت وسائل حفظ الأمن، والقضاء على خلايا الإرهاب، وتجفيف ينابيعه، كما يكتب الأستاذ محمد الكتاني، فإنها لا تعد سوى «مواجهة ظرفية» محدودة الفعالية، ما دامت لم تعتمد «ثقافة الحوار» وتفعيل القيم الدينية في ضمائر المسلمين ولم تنطلق من إشاعة الصورة الصحيحة عن الإسلام، ومن التعامل مع قيمه كمفاتيح لقلوب معتنقيه، إذ من الحقائق التاريخية أنه لا يمكن للعالم الإسلامي القيام بأي نهضة وتنمية وإصلاح من خارج الإسلام نفسه، الذي يظل المصدر الروحي الأساسي للجماهير الإسلامية، ولذلك اتجهت كل الحركات الإصلاحية فيه على مدى القرن الماضي إلى اعتماد الذاتية الإسلامية، لكنها واجهت واقعاً يهيمن عليه التخلف الاجتماعي والأمية الحائلة بين المسلمين وبين الوقوف على حقائق دينهم، في نصوصه المرجعية بدون وسيط متطرف أو جاهل أو جامد.
ذلكم أن آفات الفقر والأمية والظلم الاجتماعي التي تنخر كيانات المجتمعات الإسلامية هي مصادر التطرف و»الأصولية».. يُضاف إليها التهجم المستفز على الإسلام، في كل وسائل الإعلام الغربية.. لذلك نعتقد أن الإسلام يواجه اليوم أخطر التحديات بالافتراء على تاريخه، واتهامه بأنه دين التطرف والإقصاء.. كما يُواجه نفس التحديات من داخل المجتمعات الإسلامية نفسها، بتشويه صورته، وتحريف قيمه من لدن الدعاة المتطرفين الذين جعلوا «العنف» والإرهاب الأعمى ضرباً من «الجهاد المشروع»، ولله الأمر من قبل ومن بعد.