نشاهد اليوم، وقد شاهدنا فيما مضى استعانة الدول العربية على الصائل الداخلي أو الخارجي ببعض الأصدقاء من الدول الأخرى، لتمتعهم بالكثير من التقنية والقدرة سواء في المجال العسكري أو المجالات الأخرى، وقد تكرر ذلك وسوف يتكرر.
وربما عاد الكثير إلى الوراء للبحث عن السبب، ولا بد أن السر يكمن، في الخلود لفترة طويلة سابقة، والانصراف عن العلوم الطبيعية والتطبيقية، إلى غيرها من العلوم النظرية، وكان ذلك في المشرق العربي والمغرب على حد سواء، ومن المحزن أن ذلك استمر مدة غير يسيرة.
ففي المغرب العربي، وخصوصاً الأندلس كان الازدهار العلمي واضح المعالم، ولم يكن العلم مقصوراً على العلوم النظرية، بل كان للعلوم التطبيقية نصيبٌ كبير من ذلك، لا سيما في عهد الخليفة الأمير عبد الرحمن الناصر، وأقول الخليفة الأمير، لأنه كان أميراً، ولما رأى ضعف الدولة العباسية في المشرق، سمّى نفسه خليفة، وكان قمة التقدم العلمي في عصر ابنه المستنصر أو الحكم الثاني، والذي كان عدد الدارسين في الجامعات من أوربا لا يُحصى، وكانت مكتبته تحوي ستمائة ألف كتاب.
لقد جمع هؤلاء حصيلة الشرق العلمي التي انتقلت عبر الأندلس، إضافة إلى ما أضافة الأندلسيون من علوم كثيرة في المجال التطبيقي، وهذا الزاد الكبير من العلوم هو الأساس الذي بُنيت عليه قاعدة المعلومات التي على أثرها قامت الثورة العلمية الأوروبية.
جاء من بعد الخليفة المستنصر، ابنه هشام المؤيد بالله الذي ليس له من الأمر شيء، فكان المنصور ابن أبي عامر، هو سيد القصر المطلق بعد أن وصل إليه بإرادة الله أولاً، ومن خلال هيام صبح الباقارية والدة المستنصر بهذا الفتى الذي يبلغ من العمر سبعة وعشرين عاماً، وكذلك قدراته العسكرية والسياسية الهائلة.
لقد أشغل ابن أبي عامر نفسه وقومه بالغزوات المتتالية على النصارى، ليحصل على الغنائم ويضعف الأعداء، لكنه لم يسترد أرضاً، وإنما جمع غنائم وسرارى، حتى إن الرجل ينادي على من يتزوج ابنة الحرة ويدفع له مقابل ذلك شيئاً من المال، كما تقول الروايات.
واستمر الحال في عصر الطوائف والمرابطين والموحدين، مع انكسار شوكة المسلمين واستيلاء أعدائهم على جزء كبير من أراضيهم.
من تلك الجهة منطقة يُقال لها شريش، كانت جميلة، رائعة، خلاّبة، مشهورة بالإنتاج لا سيما الزيت، والفواكه، وأطايب الأطعمة، وفيها يقول الشاعر ابن لبال:
إذا أبصر المحزون أرض شلوته... وحسن محياها أفاق من الحزن
كان على غيطانها ومتونها... دبابيج خضر أحكمتها له المزن
مذانب تترا في مروج كأنها... عذار بخدي ذي جمال وذي حسن
وشلوتة هي اسم لشريش التي ولد فيها ابن لبال، حيث يقول، مع أحد أصدقائه:
مسقط الرأس شريش... وبها كنت أعيش
بلدة يوجد فيها... كل شيء ويريش
وردها من سلسبيل... وصحاريها عريش
وقد استولى النصارى عليها كاملة زاهية دون خراب، وكانت في أوج حسنها وبهائها وإنتاجها.
نعود لنقول إن المسلمين هناك انشغلوا بالعلوم الأخرى، وانصرفوا عن العلوم التطبيقية وأبدعوا فيها، وها هو ابن لبال الشريشي القاضي والعالم النحوي يجمع حروف الزيادة التي يعرفها النحاة في قوله:
هويت السمان فشيبني...وقد كنت قِدْمًا «هويت السمانا»
فقد جمعها في «هويت السمان».
وللحق أن هذا الرجل - رحمه الله - كان ورعاً تقياً جليلاً منذ نشأته التي عاش منذ بدايتها في فقر وعوز.
وقد ولي ابن لبال القضاء مكرهاً، وكان سبب ذلك أن والي إشبيلية طلب من أهل شريش أن يجتمعوا على رجل منهم ويولونه القضاء، فأجمعوا عليه ولم يختلف عليه أحد منهم، فحلف ألا يكون قاضياً، فأجبروه، وذهب إلى إشبيلية ليستعفي فلم يستجب له، ولم يكن لديه مال، فأطلق له صاحب إشبيلية راتباً شهرياً جمعه ليشتري به عبداً ويعتقه تكفيراً عن يمينه، وقال:
كنت مذ كنت كارهاً... أن أولى خطة القضاء
لم أردها وإنما... ساقها نحوي القضاء
وبعد حين طلب الإعفاء، فأعفي، ففرح فرحاً كثيراً وقال:
حملت على القضاء فلم أرده... وكان علي أثقل من ثبير
فلما أن عزلت جعلت أشدو.. لقد أنقذت من شر كبير
رحم الله ابن لبال، ورحمنا، وأرانا الحق، ونفعنا بما تعلمنا.