هذا قسم من الله جاء في أول سورة البروج، فبعد أن أقسم الرب سبحانه بالسماء ذات البروج، وباليوم الموعود الذي هو يوم القيامة أقسم بالشاهد والمشهود،، ولله عزّ وجل - كما هو معلوم - أن يقسم بما شاء من مخلوقاته خلاف الإنسان الذي لا يجوز له أن يقسم إلا بالله الذي خلقه وسواه ثم صوره، و «الشاهد» عند كثير من المفسرين يوم الجمعة، و «المشهود» هو يوم عرفة، وقد أقسم الله بهما لعظم شأنهما وعلو قدرهما عنده جلّ شأنه.
لقد فاضل الله سبحانه بين الناس منذ آدم عليه الصلاة والسلام وحتى يوم القيامة، فأفضل الخلق الرسل والأنبياء، وأفضلهم أولي العزم من الرسل، والأفضلية المطلقة لمحمد صلى الله عليه وسلم.. كما فاضل الرب عزّ وجل بين الأماكن فبيت المقدس والمسجد النبوي الشريف والبيت الحرام، هي أشرف البقاع في الأرض والأخيرة لها الأولوية المطلقة في هذا الباب، أما الأزمان فأفضل ليالي العام ليلة القدر، وأفضل نهار على الإطلاق يوم عرفة وهو «اليوم المشهود» كما سبق، وسمّاه الله بهذا الاسم على الصحيح، لأنّ الناس يجتمعون فيه من كل حدب وصوب ليشهدوا منافع لهم،حتى أنّ الله سبحانه يباهي بهذا المشهد المهيب ملائكته ممتدحاً الحجيج وهم وقوف في هذا اليوم العظيم جاءوا طلباً لما عند الله شعثاً غبراً.
يجتمع لنا هذه الساعة أعظم يومين في وقت واحد، ولن أستطرد في باب فضلهما ولا حتى في بيان مزيتهما، ولن أبحر فيما قاله العلماء في مسألة المفاضلة بينهما، ولكن استوقفني هنا نصّان صحيحان قالهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حقهما التذكير والتأكيد عليهما في هذا اليوم المميز بحق.
أولهما ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: (فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلاّ أعطاه إياه) متفق عليه، والمراد بالصلاة هنا الدعاء، والأرجح من الأقوال أنّ هذه الساعة ما بين صلاة العصر إلى غيب الشمس.
وثانيها قوله عليه الصلاة والسلام (صيام يوم عرفة احتسب على الله أن يكفّر السنة التي قبله والسنة التي بعده) رواه مسلم.
إذ في هذين النصين دلائل عدة أهمها في نظري:
* قرب الله عز وجل من عباده ورحمته بهم، ومنحه إياهم فرصاًَ تتجدد وتتكرر كل يوم جمعة.. ومن جرب الدعاء، وعرف السبيل لطرق باب الرحمن ثبت له بالتجربة الشخصية والبراهين الحية كم هي منح الرب تترى على من استشعر ضعفه وقلة حيلته فلجأ إلى من بيده مفاتيح الخير وعنده مغاليق الشر سبحانه.. رفع أكف الضراعة بين يديه حتى كان الفرج له والمخرج من حيث لم يحتسب.
* تفاضل الأوقات واختلاف ساعاتها في ميزان الله، فسنوات العمر ليست واحدة ولحظات الزمن لا تماثل عقارب الساعة كما نظن.
* علم الله سبحانه وهو الخالق لنا بحالنا «نخطئ فنتوب، ونعود فنخطئ ونخطئ ونخطئ» ولذلك فتح لنا باب التوبة حتى قبل غرغرة الروح.
* سنتان في يوم «الماضية والقادمة» لمن صام هذا اليوم رغبة لما عند الله، واعترافاً بالذنب، وشعوراً بالتقصير، والتماساً لنيل هذا الفضل العظيم.
إنني في الوقت الذي أبارك فيه للجميع هذه الأيام الفاضلة، أسأل الله عزّ وجلّ أن يحقق لنا في هذه الساعات المباركات والنفحات الطيبات أمنياتنا ويستجيب دعواتنا ويغفر زلاّتنا ويستر عوراتنا ويعلي راياتنا وينصرنا على من ظلمنا، ويتقبّل من الحجيج حجهم ويجعل عيدنا سعيداً، وكل عام وأنتم بخير وإلى لقاء والسلام.