سأظل أتذكر مع زميلي الأديب والأكاديمي السنغالي أمادو لامين سال كلمات الرئيس السنغالي السابق سنكور (Senghor) أثناء جولته في جزيرة كورفو اليونانية: «عندما يلتقي شعبان، فغالباً ما يتصارعان ودوماً يختلطان».
ولعل التلاقي واختلاط الأجناس هما الكلمتان الجوهريتان، إذ يتعلق الأمر حتماً بالحوار واختلاط الحضارات والثقافات تفادياً للتقوقع واجتناب الغرور والإقصاء والحروب. ويذكرنا أشهر علماء علم الأجناس البشرية أن أولى الحضارات الإنسانية وأهمها على الإطلاق قد ظهرت بمنطقة البحر الأبيض المتوسط، هنا حيث تم التقاء أهم ثلاثة أجناس بشرية تجانست وتماجزت: الجنس الأسود والأبيض والأصفر. ونعلم أيضاً أنه على طول المسالك البرية الكبرى التي رسمت عبر آلاف السنين تكونت معظم الحضارات. ذلكم المسلك العظيم للسهوب تمر عبر جبال الهمالايا شمالاً للوصول إلى بلاد تركيا، ثم يمر بعد ذلك على طول البحر الأبيض المتوسط. كما لعبت الطرق البحرية أيضاً الدور نفسه وباتت لها الأهمية عينها. وهكذا يعود حوار الثقافات وتلاقي الحضارات إلى آلاف السنين، وبالتالي تمت صياغة تاريخ الإنسانية منذ زمن بعيد... فمعجزة الحضارة الإغريقية استمدت قوتها من الحضارة المصرية القديمة والهندية وحضارة بلاد فارس وجميع الحضارات المتوسطية. والنهضة الأوروبية، يقول روجي جارودي، لم يكن لها أن ترى النور لولا الامتداد العربي والحملات التي شنها المغول وما حملت معها من كنوز الحضارة الصينية، ودون إعادة اكتشاف ليس فحسب الحضارة الإغريقية والرومانية وإنما أيضاً الحضارة الفارسية وما تلتها من حضارات هندو أمريكية. و»من أهم عيوب التاريخ المكتوب تتمثل في كونه نتاج المنتصرين الذين لطالما رغبوا في إظهار حتمية هيمنتهم التاريخية، أي أنها نجمت عن تفوق ثقافتهم وحضارتهم».
ووحده الحوار بين الثقافات يلقح الحضارات العظيمة!، كما أن «المشروع الإنساني» يصبح مشروعاً يلملم البشر بدل أن يؤدي إلى تشرذمهم!، «فلا يمكننا الاعتقاد بحتمية المستقبل إلا إذا اعتقدنا بحتمية التاريخ»! إنه مشروع حضاري جديد.
إن القرن الجديد الذي نستهله هو قرن تحدي ضروب الهوية والعقيدة!، وفي خضم التطورات المهمة التي نعيشها، شهد القرن العشرون الذي ودعناه انهيار الإمبراطورية السوفياتية والإيديولوجية التي تدعو إليها، وكذا النموذج السوسيو اقتصادي القوي الذي كانت تتبعه. وفي هذا الموضوع، أشار الكاتب جون لويس روي أن: «انهيار الاتحاد السوفياتي قد دمر علم التاريخ وتصور العلاقات بين البشر. وارتكز ذلك على منظور شمولية الإنسانية وفكرة أن المجتمعات يمكن أن تسوسها تبعاً لمبدأ واحد». ولعل المجال الذي نجد فيه تلك التعددية الثقافية والحوار بين الحضارات تتحكم فيها رهانات اقتصادية حتمية والتي تعجب بكل المعتقدات الأخرى عدا ما يتعلق بالمال. ونجد اليوم على الصعيد العالمي أقطاباً ثقافية واقتصادية وجغرافية تعتبر بمثابة مختبرات لجس النبض وتحقيق التوازن في موضوعي الهوية والوازع الديني لشعوب الكوكب. كما أن الملاحظة الطاغية تتمثل في ضرورة وحتمية التعايش بين الشعوب كضمان للبقاء. فدائماً ما كان سنكور يقول إن الحرب العالمية الثالثة التي نتوقعها نووية ستكون بالأحرى عرقية..... غير أن هذه الحرب قد لا تكون لا نووية ولا عرقية ولا دينية إذا ما أسسنا لحوار حقيقي بين الثقافات، أساسه العدالة والمساواة والتآزر بين الشعوب. وتلكم قيم يجب التحلي بها وترسيخها. ترسيخها أولاً بداخل كل فرد منا وغالباً ضدنا.
وتجدر الإشارة إلى أن غنى العالم الديموغرافي، الذي يثيره اليوم تمازج عميق بين الأعراق الناجم عن ضغوط الهجرة والمبادلات، لا مثيل له في تاريخ حضارتنا هذه. ويدفعنا تسارع تدفق أنواع الهوية المتعددة وغنى التعدد العرقي في العالم، وخصوصاً في الدول الأكثر تقدماً، إلى الاعتقاد بمشاهدة تعايش الإرث الروحي والثقافي واللغوي في العالم حيث يغدو الاعتراف بمعنى تحدي إثبات الهوية والعقائد رهاناً مهماً في إطار حقوق الإنسان والتقدم.
وإذا أردنا التعمق أكثر في الموضوع، فإن تحدي إثبات الهوية يتجاوز المظاهرات المعزولة هنا وهناك التي تقوم بها بعض الأقليات. لقد أصبح واقعاً ثقافياً على الصعيد الدولي. وصار الحق في التطور وفي التقدم حقاً للدفاع عن الهوية. ويتعلق الأمر بالحفاظ على الأمن العالمي وبعدم دفع الإنسان إلى التنازل عما يهمه لتحقيق سعادته وازدهاره، ونقصد هنا ثقافته وأصوله وعائلته وجذوره ونسبه إلى غير ذلك.
وكما يعلم كل متتبع حصيف أن هيمنة الثقافة العالمية التي تتشكل تواجه شيئاً فشيئاً مقاومة من النوع نفسه. ورغم التنويم المغناطيسي الذي تثيره العولمة الحتمية، تظهر من حين لآخر كلمات كانت مصادرة من قبل، ولن نختلف حول هذا لتفسير الحروب والصدامات التي تشن بين الشعوب ومسارح الدم في العالم. ولننتبه إلى الخطابات الاقتصادية، تلكم الخطابات والمناهج التي أصبحت «ذريعة لكل التنازلات»، بل أكثر من ذلك أيضاً لتنازل ثقافي وروحي. فلنعط الأولوية إذن للفكر واحترام ثقافة الآخرين وثقافة كل فرد على حدة، وهذا ما يشكل رهان بداية هذا القرن، إنها القيم، أي ما يجعل أي مجتمع جديراً بالاحترام والتقدير على المستوى الأخلاقي والثقافي والروحي، وما يمكن مجتمعاً إنسانياً من أن يمسي مرجعاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى نبيل. ولعله «أن تنتصر دون أن تكون على حق» لا يؤدي إلا إلى طريق مسدود. فحوار الثقافات في إطار العولمة لا يظهر كحتمية كما كان عليه أن يكون، ولكن هذا الحوار، كما يجب أن نعلم، إنما هو حوار بين أطراف غير متكافئة. فمن جهة نجد بشراً ودولاً فقيرة، ومن جهة أخرى نجد دولاً غنية. وما عسانا نحتفظ به إن أصبحت قلوبنا وعقولنا سلعاً وأشياء للبيع أيضاً؟، إنه جراء هذه الخشية تولد مفهوم التعددية الثقافية. ولعل الوصول إلى الديموقراطية العالمية ليحتم البحث عنه بذكاء، وذلك باحترام الاختلافات، وهو تعبير سياسي لعولمة مسيطر عليها مطابقة لقيمنا. وإذا لم يخضع الفكر للحسابات التجارية، فإن مغامرتنا الإنسانية سوف تكون أكثر تآزراً وأقل طائفية وإزعاجاً في ظل التفاوت والاستغلال. وبسلوك كهذا يمكننا مواجهة أولئك الذين يتبنون فكرة صراع الحضارات، والأفكار المتعصبة المرتبطة بالهوية والقومية وحتى الدينية، والتي تنعكس على العالم بصورة مؤلمة. ويقول جاك شيراك: هناك حدود يجب على العولمة ألا تلغيها. تلكم التخوم التي تمكننا من الانتقال من ثقافة نحو أخرى، وتعلمنا على أنه ليس هناك لغة واحدة بل لغات متعددة، وأن كونية الإنسان تتجسد في كل ما هو خاص، وأنه يجب علينا الحفاظ على هذا الغنى كما الممتلكات النفيسة للإنسانية. وليست مناطق الإنسان فقط مادية أو جغرافية، بل إنها أيضاً مناطق روحية، وبقدر هذه المناطق يجد كل فرد منا في جميع القارات كرامته ويقيسها كما يقيس كرامة الآخر. وفي هذه المجالات أيضاً يصاغ السلم العالمي ويحدد مصير الشعوب وكذا التسامحين الناس. فباتحاد الدول ووفق تركيب محكم والاستثمار الأمثل لتحويل مواردها الخاصة وحصولها على أسواق ضخمة ووفائها لخصوصيتها الثقافية واحترام ثقافة الآخرين، يتسنى لكل دولة أو كل أمة أن تسهم في بناء عالم أكثر عدلاً وأقل رعباً. وإنه لمن الواجب علينا وعلى الإنسانية جمعاء أن نشجع حوار الثقافات وننقد التنوع الثقافي والتعددية.