هؤلاء المواطنون الإحسائيون الذين وجهوا نداء الاستغاثة إلى الملك عبد العزيز هددوا بأنه إذا لم يأتِ لنجدتهم وإنقاذهم من الظروف الصعبة التي يعيشونها فإنهم قد يضطرون إلى الارتماء في أحضان الإنجليز وطلب حمايتهم، مثلما فعل أهل قطر وأهل الكويت وقبلهم بقية أهل الساحل. لهذا فاستجابة لأهل الأحساء، ووصولاً إلى أحد أهم أهدافه في استعادة بناء وحدة دولته التي أسهمت الدولة العثمانية في تقويضها، تقدم على رأس جيشه واستعاد الأحساء بأقل الخسائر البشرية، حيث استسلمت الحامية العثمانية وقام بتأمينها ووفر لها الانسحاب الآمن بكل أسلحتها إلى ميناء العقير، ميناء الأحساء الأول، ومنها إلى البحرين حيث أقلتهم السفن العثمانية أو غير العثمانية إلى البصرة، وأعاد إلى الأحساء أمنها واستقرارها وقطع دابر كل عابث بالأمن.
في كل مرة يحقق الملك عبد العزيز انتصاراً كان ذلك يحدث خيفة وتوجساً في نفوس البعض من الحكام المحليين، فلقد كان انتصاره في الأحساء مصدر قلق لحاكم قطر الشيخ جاسم آل ثاني، وربما شاركه في ذلك حاكم الكويت الشيخ مبارك، ولكنه كان ينظر إلى هذين الشيخين بعين التقدير والاحترام، برغم أفضاله على كل منهما، فلقد أنقذ الشيخ جاسم من ثورة العشائر ضده، وكان ذلك قبل فترة من استيلائه على الأحساء، وفعل الشيء نفسه مع الشيخ مبارك، وإن كان الملك عبد العزيز يكنَّ له كبير التقدير والإعجاب متذكراً سنوات المنفى في الكويت. وقد حول الشيخ جاسم وهو أكبر شيوخ الخليج سناً قطر إلى مكان لتجمع خصوم الملك عبد العزيز من أبناء عمومته وبعض القيادات النجدية التي مالت إلى جانب خصوم الملك عبد العزيز من أقربائه، واستغل ذلك كل من ابن رشيد وشريف مكة ورجال الدولة العثمانية التي حاولت أن تجعل من قطر انطلاقاً لإعادة حكمها إلى الأحساء.
إلا أن هذه المواقف لم تضعف ولم تثن من عزم الملك عبد العزيز في المضي قدماً في تحقيق مشروعه وهو إعادة وحدة بلاده، وكان يملك من المهارة والدهاء السياسي والقدرة على تحمل مكائد الخصوم ما جعله يبدي رغبته في التحدث مباشرة مع الدولة العثمانية، التي بلغ بها الغضب حده بعد استيلائه على الأحساء ورفع أركان القيادة العثمانية شعار «ما أخذ بالقوة لا يستعاد إلا بالقوة»، وأكد لهم خصوم الملك عبد العزيز الظاهر منهم والمستتر أنهم سيقفون جميعاً إلى جانب الدولة العثمانية.
حشدت الدولة العثمانية قوتها في البصرة كنقطة انطلاق لاستعادة الأحساء، وعينت على هذه القوة القائد سليمان كمالي باشا، أحد أبرز القادة العثمانيين وصاحب خبرة طويلة في عسير واليمن، والخبير في الشؤون العربية، وتدفق على البصرة خصوم الملك عبد العزيز - وعلى رأسهم ابن رشيد - مبدين استعدادهم للمشاركة في محاربة ابن سعود، وأبدى الآخرون استعدادهم للمشاركة.
أدرك سليمان باشا - بحكم خبرته في الشؤون العربية وأحوالها ومعرفته الجيدة بأوضاع الدولة العثمانية بقيادة قادة انقلاب عام 1908م المتحمسين: انور باشا وطلعت باشا وجمال باشا، الذين كانت تنقصهم الحكمة والروية - أن خوض الدولة حرباً ضد ابن سعود يعد مغامرة غير محسوبة النتائج، وقد يعرضها لما يزيدها ضعفاً، وهي تواجه آنذاك العديد من التحديات ورأى أن من الأفضل - بل من الحكمة - أن تدخل الدولة في محادثات مع ابن سعود والحصول منه على اعترافه بتبعيته للدولة العثمانية، واعتراف الدولة من جانبها بحكمه على الأحساء وكل نجد له ولذريته من بعده.
وتمت الموافقة على ذلك، وأضاف الملك عبد العزيز إلى جانب انتصاره العسكري باستعادة الأحساء نجاحاً سياسياً في تجنب المواجهة العسكرية مع الدولة العثمانية، وبهذا أصبحت معظم بلدان نجد بما فيها الأحساء تحت حكم الملك عبد العزيز واستطاع بجدارة أن يثبت الأمن والاستقرار التي كانت تفتقده هذه المنطقة المهمة من جزيرة العرب، مما انعكس أثره على أمن المناطق المجاورة، وبتثبيت حكمه على منطقة الأحساء بكل سواحلها، أصبح جاراً لنفوذ الإمبراطورية البريطانية في قطر والبحرين والكويت وساحل الإمارات المتصالحة أبو ظبي، ودبي، والشارقة، وأصبحت له حدود مع عُمان في واحاب البريمي. واستفادت هذه البلدان من وجود جار قوي لديه القدرة على السيطرة على كل القبائل المجاورة لبلدانهم التي لم تكن قبل وجوده قادرة على السيطرة عليها في كثير من الأحيان.
علاقة الملك عبد العزيز ببريطانيا
ولكن السؤال الذي لابد أن يطرح نفسه هو: ماذا عن علاقة الملك عبد العزيز ببريطانيا صاحبة الحماية على هذه البلدان؟ وماذا ستكون عليه العلاقات السعودية - البريطانية بحكم التماس بين حدود نفوذ الطرفين وبحكم وجود قوتين (السعودية وبريطانيا) هما الأكبر تأثيراً ونفوذاً في منطقة الخليج.
حاول الملك عبد العزيز أن يبني علاقة مع بريطانيا منذ الوهلة الأولى لاستعادته الأحساء، وحتى قبل ذلك بقليل، ولكن بريطانيا تمنعت بحجة أن علاقتها في هذه المنطقة مع الدولة صاحبة السيادة وهي الدولة العثمانية التي وقعت معها اتفاقية ترسيم الحدود بين نفوذها على محمياتها والمناطق التابعة للدولة العثمانية في عام 1913م، أي قبل سنة واحدة من اندلاع الحرب العالمية الأولى، وتقريباً في نفس العام الذي استولى فيه الملك عبد العزيز على الأحساء.
وفي الوقت الذي تمنعت فيه بريطانيا من إقامة علاقة مع الملك عبد العزيز، سارع هو إلى فتح حوار مع الدولة العثمانية وتوقيع الاتفاق الذي تم بينه وبينها الذي أتينا على ذكره آنفاً.
وكان من بنود الاتفاقية السعودية - التركية انه في حالة اندلاع حرب بين الدولة العثمانية ودولة أجنبية فعلى الملك عبد العزيز أن يساندها بما يمكنه جمعه من محاربي عشائره، وألا يقف مع عدوها. وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى ودخلت الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا ضد بريطانيا ودول الحلفاء، وجد الملك عبد العزيز أنه ليس مضطراً للدخول إلى جانبها أو إلى جانب بريطانيا التي رفضت الدخول معه في أي شكل من العلاقات منذ بداية الأمر، ومن هنا وجه كل اهتمامه إلى ما فيه مصلحته وذلك بالمضي قدماً في تحقيق مشروعه الكبير، وهو توحيد ما لم يتم توحيده من بقية المناطق التي لم تنضم إليه بعد، وتجنيب ما تم توحيده من أي مخاطر نتيجة لما يلوح في الأفق من تطورات على المستوى الدولي ممثلاً في قيام الحرب العالمية الأولى.
كيف تمكن الملك عبد العزيز من تجنب الدخول في أتون الحرب؟
على ضوء الخريطة السياسية للجزيرة العربية التي وضحتها في بداية هذه المقالة - التي وضحت حالتها قبل اندلاع الحرب - انقسمت تلك الوحدات السياسية فيما بينها، فمنها من انحاز إلى جانب الدولة العثمانية لدى إعلانها الحرب ضد بريطانيا وحلفائها مثل إمام اليمن الإمام يحيى بن حميد الدين، وذلك لدواعٍ دينية وسياسية أو القبول بالأمر الواقع، الذي لم يكن لديه الكثير من الخيارات، فلقد كان نفوذه في منطقة شبه معزولة محاطة بالحكم العثماني الذي لم يكن في حالة وئام معه، ولكنه رأى من منظور ديني، أو هكذا ادعى، أنه لا يجوز مناصرة دولة كافرة وهي بريطانيا على دولة مسلمة وهي الدولة العثمانية، وزاد من تشبثه بهذا الموقف، ولعل الأهم من الوقوف إلى جانب العثمانيين هو دخول منافسه على حكم السواحل اليمنية السيد محمد بن علي الإدريسي الذي كان قد أعلن ثورته على الدولة العثمانية منذ فترة مبكرة، وأقام له كياناً سياسياً في منطقة المخلاف السليماني (جازان)، واتخذ من مدينة صبيا عاصمة له، واستطاع أن يقنع أو يخضع العديد من القبائل اليمنية سواء في الساحل أو في جبال شمال اليمن من الدخول في طاعته. وأعلن انحيازه إلى جانب بريطانيا في الحرب ضد الدولة العثمانية بعد وعدها له بالاعتراف به حاكماً على كل المناطق التي مد إليها نفوذه، ولكنه خسر الرهان بركونه إلى الوعود البريطانية، وخسرت الدولة العثمانية الحرب وكسب إمام اليمن حميد الدين حينما جعل القوات العثمانية في اليمن بعد توقيعها الاستسلام بالهزيمة شبه رهينة له حتى يتم له بواسطتها توحيد اليمن تحت حكمه، بما في ذلك إجبار أتباع الإدريسي على إخلاء كل المناطق اليمنية التي تمكن من بسط نفوذه عليها. وإفشال مشروع إقامة دولة مستقلة لأبناء السواحل اليمنية بناءً على رغبتهم بجعل الحديدة عاصمة لها، وإن لم يتحقق لهم ذلك فإنهم كانوا يرغبون الانضمام لمصر كمشروع من مشروعات التسوية لما بعد انتهاء الحرب.
حذا الشريف حسين بن علي شريف مكة حذو الإدريسي الذي انحاز إلى جانب بريطانيا في الحرب، ودخل في مفاوضات مع المندوب السامي البريطاني في مصر السير ماكمهون الذي وعده باسم حكومة جلالة ملك بريطانيا بأنه سيكون ملكاً على جميع البلاد العربية، وليس ملكاً على الحجاز فقط، ولكن مقابل دخوله الحرب لصالح بريطانيا، وقد كانت وعود بريطانيا دائماً وعوداً كاذبة، وذهب الحسين ضحية هذا الوعد وخسر مثل كل عربي انخدع بالوعود البريطانية.
حاول الشريف الحسين بكل الوسائل إقناع الملك عبد العزيز بالاصطفاف إلى جانبه في الثورة ضد الأتراك وكان هذا بالطبع لأهداف سياسية تخدم مصلحة الشريف، إلا أن الملك عبد العزيز كان قد اتخذ قراره بعدم الوقوف إلى أي من القوتين المتحاربتين للمراهنة على تثبيت حكمه، لأنه كان لا يركن إلى وعود كاذبة من أجل تقرير مصيره ومصير مستقبل بلاده السياسي، وإنما كان واقعياً ويعرف تماماً ما يريد، وبأي الوسائل للوصول إلى هدفه وهو الاعتماد على نفسه وقدراته وإمكاناته والتفاف شعبه حوله، وفي الوقت نفسه لم يتعمد إغضاب أي من الدولتين العثمانية ولا البريطانية طالما أن أياً منهما لم يتدخل في شؤونه وظل يمسك بشعرة معاوية.
وحاول الشريف أن يجر أبناء منطقة عسير إلى جانبه في الثورة ضد العثمانيين والدخول بهم في الحرب إلى جانب بريطانيا، إلا أنهم رفضوا ذلك لأسباب دينية. وبدأوا خلال هذه الفترة في التواصل مع الملك عبد العزيز أملاً في تحقيق الوحدة المنشودة.
أما الخصم التقليدي للملك عبد العزيز - وهو ابن رشيد حاكم حائل - فقد انحاز بشكل مطلق إلى جانب الدولة العثمانية، مع أن المصادر الإنجليزية تشير إلى أن ابن رشيد فشل في إقناع بريطانيا بأن يكون حليفاً لها، ومن هنا عاد وراهن على أن الدولة العثمانية ستقف إلى جانبه في التغلب علي منافسه الملك عبد العزيز في حكم نجد، وكان انحياز ابن رشيد هذا ينم عن سذاجة سياسية من ناحيتين:
الأولى: أنه لم يدرك أن الملك عبد العزيز أصبح تقريباً سيداً لمعظم بلاد نجد، بما في ذلك منطقة الأحساء المهمة، حيث تمكن بذلك من كسر طوق العزلة وأصبح له إطلالة على العالم الخارجي، وأرغم الدولة العثمانية على الاعتراف به حاكماً على نجد وكل عشائرها حكماً له ولأولاده وأولاد أولاده من بعده.
الثانية: أن الرهان في الركون إلى دولة شبه متهالكة والدخول في الحرب إلى جانب ألمانيا كمغامرة غير محسوبة كانت بمثابة المسمار الأخير في نعش تلك الدولة المتهالكة، وحينما دقت طبول الحرب وعلم الملك عبد العزيز بدخول ابن رشيد إلى جانب الأتراك، اقترح أن يوقع معه اتفاقية هدنة بين الطرفين طالما أن الحرب العالمية قد اندلعت، وأن من المصلحة للطرفين (ابن سعود وابن رشيد) أن تتوقف الحالة العدائية بينهما وأن لا يشن أحد منهما حرباً على الآخر، وأن تكون الهدنة دائمة إلى حين نهاية الحرب، ومنحه ابن سعود ثلاثين يوماً للرد، ومما ورد في نص رسالة الملك عبد العزيز إلى الأمير سعود بن عبد العزيز الرشيد في هذا الخصوص ما نصه «الصلح يُعقد على ثلاثة أحوال»:
أولاً: «حنا نتعاطا وإياكم وجيه وأمان حتى ينقضي لازم الدولة».
ثانياً: «أن الرعية التي تحت يدينا التي تحت يديكم تكون آمنة بعضها من بعض ومنا ومنكم».
ثالثاً: إن الذي في طرفنا وطرفكم مثل آل رشيد ومثل العرافة أن الكل يتكفل خمل إلى عنده عن طوارف صاحبه، وأن جميع ما يلزم علينا وعليكم من بلد ومن بادية تكون آمنة من الخفي والبين، ولا يجي أحد منا صاحبه بسوء حتى يبين له قبل شهر ثلاثين يوم، فإذا أجبتونا إلى ما دعيناكم إليه فأنا معطيكم وجهي وأمان الله وعهد الله، والخائن عليه لعنة الله على جميع ما ذكرنا أعلاه وعن الغبا والغبيه وجميع (.....) وبغا عليكم حتى يجيكم التنبيه من قبل شهر، وأنتم إن شاء الله تعطونا مثل هذا الجواب تفصيلاً، هذا ما لزم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم (تاريخ الرسالة: 5 محرم 1333هـ).
لكن وكما يبدو وما أثبتته الأحداث أن ابن رشيد لم يأبه بما دعاه إليه ابن سعود واغتر بما أصدرته الدولة العثمانية من تعليمات بتنصيبه مرجعاً لكل محاربي عشائر الشمال في العراق وسورية من شمر وعنزه والرولة، وجعلت من مدينة الرقة في سورية مكاناً لتجمعهم وتجنيدهم للحرب إلى جانب الدولة العثمانية، وزودته بعشرات الآلاف من البنادق والذخيرة بما فيها مدافع جبلية.
أخذ الملك عبد العزيز احتياطاته لمواجهة ابن رشيد، إذا وجه قوة محاربيه باتجاهه، وعمد إلى محاصرته اقتصاديا خاصة أن معظم إمدادات حائل تأتي إليها من الكويت والبصرة، ولوقوع الأخيرة تحت سيطرة البريطانيين بعد احتلالها كنقطة انطلاق له لطرد العثمانيين من العراق، أصبحت طرق الإمداد الاقتصادي إلى شمال الجزيرة العربية من الصعوبة بمكان، وتحولت الكويت إلى أهم ميناء لتزويد داخل نجد وشمال الجزيرة العربية باحتياجاتها الاقتصادية. وكانت القوافل - التي تعد بعشرات الآلاف من الجمال - تتزود بحمولتها من الكويت، وكان معظم أصحاب هذه القوافل من القصيم والزلفى، وقد ارتفعت أعدادها خلال هذه الفترة، وكان بعضها يذهب إلى حائل وإلى الجيش العثماني، ولكون حائل والعثمانيين أصبحا في خندق واحد ضد ابن سعود فاضطراه للخروج من سياسة البقاء على الحياد، فقام بمراقبة كل قافلة تخرج من الكويت ومعرفة توجهها، وأصبح له رجال في الكويت لا تخرج قافلة منها إلا بمعرفتهم، وكان شديداً على كل من خالف أوامره.
وفي السنة الأولى من الحرب وقع كل من الشريف الحسين بن علي وابن رشيد اتفاقاً أو تحالفاً باسم مناصرة الدولة العثمانية، وذلك قبل عام من ثورة الحسين ضد العثمانيين، ولكن في الواقع إنما كان ذلك تحالفاً ضد الملك عبد العزيز الذي أصبح يهدد نفوذهما في حائل والحجاز، إن لم يكن مهدداً لوجودهما كلية، وهذا ما حدث فيما بعد.
استدعت ضرورة تطور الأحداث باستيلاء الملك عبد العزيز على الأحساء قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى بسنة، أي في عام 1913م، وقيام الدولة العثمانية باستعادة الأحساء بالقوة قبل أن تدرك صعوبة ذلك، أن يدخل الملك عبد العزيز في حوار مع بريطانيا على الرغم من ترددها كما كانت تفعل من قبل، ولكنها أصبحت أمام الأمر الواقع بوجود جار لها جديد في الخليج قوي ومؤثر، وعليها أن تتعامل معه على الرغم من ممانعات الدولة العثمانية التي تذكر بريطانيا دائماً باتفاق عام 1913، وبأنها السلطة الشرعية في الأحساء على الرغم من احتلال ابن سعود لها.
ولكن بريطانيا وجدت في الملك عبد العزيز جاراً قوياً يمكن الاعتماد عليه في توفير الأمن والاستقرار في منطقة تشكل أهمية قصوى لخطوط مواصلاتها مع الهند، وهذا ما لا توفره الدولة العثمانية.
فتم فتح الحوار بين الطرفين السعودي والبريطاني بشكل سري بعيداً عن أنظار الدولة العثمانية، وكان المطلب البريطاني الأول بأن يتعهد الملك عبد العزيز بعدم التعدي على أي من حلفائها أو من هم تحت حمايتها في المنطقة في البحرين والكويت وقطر ومشيخات الساحل المتصالح وكذلك عمان.
وكان الملك عبد العزيز يتمتع بمرونة قوية على الرغم من أحقيته التاريخية في هذه المناطق، وذكَّر المفاوض البريطاني بها، وعلى الرغم من إعلان ضمان سلامة هذه البلدان من أي تعدٍ من قبله إلا أنه كان له تحفظ وحيد تجاه قطر التي أصبحت نقطة تجمع لكل خصومه، وبتشجيع من شيخها الشيخ جاسم بن ثاني ،إضافة إلى أنها الإمارة الوحيدة التي ظلت بها حامية عثمانية في شرق الجزيرة العربية.
ظلت الدولة العثمانية تهدد باستعادة الأحساء من خلال إنزال بحري عن طريق قطر، وتوظيف إمكانات الشيخ جاسم ومن هم في حمايته من خصوم الملك عبد العزيز لهذا الغرض, ولكن أثناء هذه التطورات توفي الشيخ جاسم، وخلفه ابنه محمد الذي نهج سياسة مختلفة عن سياسة والده تجاه الملك عبد العزيز، واضطرار الدولة العثمانية إلى سحب آخر قواتها من قطر بعد توقيع اتفاقها مع الملك عبد العزيز الذي اعترفت به رسمياً حاكماً مطلقاً على الأحساء وكل سواحلها ضمن الحفاظ على الحد الأدنى من السيادة التي انتهت باندلاع الحرب العالمية الأولى وقفل ملف آخر وجود عثماني في هذه المناطق وغيرها.
بهزيمة الدولة العثمانية في عام 1918م، وبتلك النهاية بدأ تتشكل خريطة سياسية جديدة للمنطقة العربية قسمت فيها الأقطار العربية إلى دويلات، ولكن المفاجأة الكبرى ولعله الحدث الأكبر المغاير لحالة التقسيم للوطن العربي على أيدي الحلفاء المنتصرين هو قيام أول وأكبر وحدة في الجزيرة العربية بل على مستوى الوطن العربي في تاريخه وهي الوحدة التي حققها الملك عبد العزيز على أرض الجزيرة العربية التي كانت مقسمة إلى دويلات وإمارات ومشيخات وقبائل لا يمكن توحيدها إلا بمعجزة، وهذا المشروع العربي الوحدوي الكبير يتجاهل الإشادة به المؤرخون العرب بمن فيهم القوميون دعاة الوحدة. ولقد كان الملك عبد العزيز بطل تحقيق هذه المعجزة هي التي تحتفل بها المملكة العربية السعودية في اليوم الثالث والعشرين من سبتمبر من كل عام.
لم يكن تحقيق هذه الوحدة أو المعجزة بالأمر السهل بل جاءت نتيجة كفاح طويل اختلط فيه الدم والعرق بكل ذرة من ذرات تراب هذه الأرض الشاسعة، وحدة شارك في بنائها كل أبناء وبنات هذه الأرض في شمالها ووسطها وجنوبها وغربها وشرقها، وسطروا بكفاحهم أروع إنجاز في تاريخ هذه البلاد. ودور أحفاد أولئك الرواد المؤسسين العظماء يكمن في الحفاظ على ما سالت فيه دماء وعرق آبائهم وأجدادهم من أجله.
وبقيام المملكة العربية السعودية موحدة في هذا الحيز الجغرافي من بلاد العرب، حيث موطن العروبة ومهبط الوحي وقبلة الإسلام والمسلمين، تمت ولادة جديدة لكيان سياسي كبير أعاد إلى الجزيرة العربية وحدتها وأمنها بعد خوفها، وأزال عن أهلها ما ران على عقولهم من جهل على مدى قرون، وأخرجهم من ضيق العيش إلى رغده، فما أن وضعت الحرب العالمية أوزارها وطفق كلٌّ يبحث عما أفرزته هذه الحرب من نتائج على أوضاع عالمنا العربي، وجد الكثير من العرب الذين تطلعوا إلى التحرر من وطأة الحكم العثماني، واصطفوا إلى جانب الدول الأوروبية التي ادعت أنها جاءت لتحريرهم من العثمانيين، فإذا بها تحل محتلاً لبلاد العرب متنكرة لكل وعودها، وإذا بثوار العرب يتلفتون يمنة ويسرة ويقولون أين المفر من استعمار تركي - أو هكذا كانوا يسمونه - إلى استعمار جديد يفرض هيمنته وسيطرته على كل مقومات بلادهم. ولم يجدوا ملاذاً سوى في بلادٍ توحدت على أيدي أبنائها، ولم يراهنوا على فزعة الأجنبي، هي المملكة العربية السعودية التي احتضنت كل ثوار العرب الذين ضاقت بهم بلدانهم وهي رازحة تحت نير الاستعمار، ووجدوا فيها الحماية والملاذ، ووضعوا إمكاناتهم في خدمة هذه الدولة الحديثة التي قامت وهي تفتقد إلى كل شيء، ولكنها لا تعدم العزيمة والصبر والتطلع إلى الأمل طالما أنها حرة ومستقلة.
ووقفت حكومة هذه البلاد وشعبها مع البلدان العربية إبان مطالبتها بالتحرر من الاستعمار، وسخرت كل إمكاناتها في خدمة الأهداف العربية النبيلة، وشكلت أهم ركيزة من ركائز الاستقرار في منطقة تمور بالكثير من القلاقل والفتن.
ومن هنا يجب التأكيد أنه لم يكن لأحد من خارج هذه الأرض من فضل في إقامة هذه الوحدة العظيمة - كما تروج دعايات بعض المغرضين والمغالطات التاريخية والتعمد في تزييف الحقائق التاريخية، وبكل أسف يصدقها المغفلون أو ما لم يوفق من مراكز الأبحاث التاريخية والسياسية في المملكة وفي جامعاتنا، من توضيح الحقائق وإبراز تاريخ بلادنا على وجهه الصحيح والناصع، وتكثيف توصيل المادة التاريخية الصحيحة إلى أذهان أجيال لا يعرفون عن تاريخهم - بكل أسف - إلا القليل، مما مكن المغرضين والمزيفين من ملء هذا الفراغ المعرفي بما يريدون مما تمليه أهدافهم وأهواؤهم. إن وطناً لا نعتز بوحدته وعظمته لا نستحق العيش فيه.