الجزء الأول
ونحن نحتفل بيوم توحيد المملكة الذي يوافق اليوم الثالث والعشرين من شهر سبتمبر، الذي تحتفل فيه المملكة باكتمال وحدتها، فإن الاحتفال بهذا اليوم ليس ببعيد عن مرور مائة عام على اندلاع الحرب العالمية الأولى 1914م وتذكر العالم لهذا الحدث؛ حيث كتب الكثير عن هذا الحدث وتأثيره في ما تلاه من نتائج وانعكاسات على أوضاع مناطق كثيرة من العالم.
وقد تابعت ما كتبه المؤرخون والكتاب من عرب وغيرهم في كثير من صحف العالم، وما بثته وسائل الإعلام المرئية من أفلام وثائقية عن هذه الحرب، وما كان يهمني أكثر هو تأثير هذه الحرب على الأوضاع السياسية في منطقتنا العربية، فوجدت أن تركيز من كتب عن المنطقة العربية كان جل اهتمامه - إن لم يكن كله - على ما أحدثه
اتفاق سايكس بيكو من تفكيك للجغرافيا السياسية للوطن العربي وخلق كيانات سياسية لم يكن لها وجود قبل هذه الاتفاقية.
وهناك مبالغة كبيرة في حجم ما أحدثه هذا الاتفاق استمرأه الكثير من الكتاب والمؤرخين والسياسيين خاصة القوميين العرب، وظلوا على مدى عقود يحمَّلون هذا الاتفاق مآسي الأمة العربية، بينما المآسي العظيمة هي ما خلقه لأنفسهم، الحكام العرب خاصة منذ ما سمي الاستقلال العربي من الحكم الأجنبي الذي انتهى في معظم هذه البلدان باتفاقيات، ولم يكن بها إلا القليل من التضحيات في سبيل الاستقلال، هذا إذا استثنينا بالطبع التضحيات العظيمة التي دفعها شعب الجزائر العظيم من أجل نيل استقلاله وحريته عن جدارة واستحقاق..
ومن الجدير بالذكر أن احتلال الجزائر كان في عام 1830م ولم يكن له علاقة باتفاقية سايكس بيكو، والكيانات السياسية المغاربية قامت على أساس ما كانت عليه قبل الاستعمار.
اقتصر تأثير اتفاقية سايكس بيكو على منطقة جغرافية واحدة هي منطقة بلاد الشام سورية وفلسطين والأردن ولبنان، وهذه المناطق كانت شبه أقاليم مستقلة إداريا وسياسياً منذ العهد العثماني، صحيح أنه كانت هناك حركة شبه حرة لمواطني هذه الأقاليم في التنقل والتملك والتجارة، لكن ظل الشامي شامياً واللبناني لبنانياً والفلسطيني فلسطينياً، أما الأردن فبحكم موقعه وظرفه الجغرافي والسكاني فقد كان في طور التشكل إدارياً في أواخر العهد العثماني، فجاء اتفاق سايكس بيكو ليثبت هذا الواقع الجغرافي والسكاني والإداري في شكل كيانات سياسية، ولو لم تكن كذلك قبل ما أقدم عليه سايكس وبيكو لما استطاعوا تحقيق ذلك.
ثم إننا لم نلمس قيام حركات أو ثورات أو مقاومة ضد هذا التقسيم من قبل سكان هذه الأقاليم قبل الاستقلال وبعده، إذا استثنينا ربما مشاعر مكبوتة في نفوس قلة من القوميين عبروا عنها على استحياء في بعض ما كتبوا، وربما - وهو الأهم - إذا ما التمسنا لهم عذراً ذهاب اهتمام الجميع بما قام به المستعمر البريطاني من خلق وطن لمن لا وطن لهم من اليهود على أرض فلسطين، وسلب ذلك الوطن من أهله، وهي التي أصبحت القضية العربية الأولى لكل العرب حولها يتحدون وأيضاً يتفرقون.
هذه الكيانات التي تم تثبيت ورسم حدودها وأصبحت لها أعلام وجوازات سفر وأناشيد وطنية، تم تثبيتها بقوة في ظل الأنظمة التي تلت الاستقلال، واصبح أي محاولة للحديث عن وحدة هذه الأقاليم تعد مساساً بالسيادة. أحب أن أقول: ليس المستعمر هو المسؤول وحده ولكن ظل الشماعة التي نعلق عليها كل إخفاقاتنا إلى اليوم.
إذا أتينا للحديث عن العراق الذي احتلته بريطانيا في عام 1916م وكعادة الاستعمار لم يقل إنه جاء ليحتل العراق، وإنما جاء بمقولة طرب لها بعض العراقيين إنه: «جاء لتحريرهم من الاحتلال التركي»!.
وكان العراق في العهد العثماني مقسماً إدارياً إلى ثلاث ولايات: بغداد والبصرة والموصل, وكانت هناك محاولات تقسيم العراق قبل أن تعلن بريطانيا فرض احتلالها وإدارتها للعراق رسمياً إلى ثلاث حكومات: واحدة في البصرة، وكان هناك نية تحويلها إلى جمهورية البصرة، وكان يطمح إلى رئاستها السيد طالب النقيب أحد أبرز أعيان البصرة إذا لم يرضَ العراقيون أن يكون ملكاً على العراق. وكان الأكراد يأملون في الحصول على دولة مستقلة خاصة بهم منفصلة عن العراق.
وكانت هناك محاولة جادة من قبل الأتراك بعد سقوط الخلافة عام 1923م لضم الموصل إلى تركيا.
من حسنات الاستعمار البريطاني - إذا كان له من حسنات - أن حافظ على وحدة العراق وضرب بكل هذه المشروعات جانباً. بطبيعة الحال لا تعمل بريطانيا هذا من أجل سواد عيون العراقيين، ولكن من أجل خدمة مصالحها في الدرجة الأولى.
من المفارقات أن نجد من بين أعمدة الاستعمار البريطاني من أنكر على بريطانيا احتلال العراق واستعماره وهو من أعلن للشعب العراقي أنهم جاءوا محررين لهم من الأتراك لا مستعمرين، ووقف في وجه حكومة الانتداب بشدة مطالباً بمنح العراقيين حريتهم وحقهم في تقرير نوع الحكم الذي يرتضونه، وكان يذهب إلى تحويل العراق إلى جمهورية.
حينما بدأ أساطين الاستعمار في العراق يبحثون عن ملك يتولى عرشه، وليكن من غير أهله كجزء من ترضياتهم لمن لم يوفوا لهم بالوعود، فاجأهم السيد سانت جون فيلبي عبد الله فيلبي - وهو أحد أركان الحكم الاستعماري - ثائراً ضد سياسة حكومته. وحين أبعد من العراق بسبب آرائه وعين مندوباً لحكومته في شرق الأردن، وكان له ذات المواقف من سياسة بلاده في فلسطين. فقد أدى ذلك إلى إبعاده نهائياً من أي منصب حكومي، فتحول إلى ثائر ضد حكومته ومحبٍ للصحراء، محبٍ لنقاوة وطهارة قلوب أهلها فكان آخر رواد اكتشاف صحراء جزيرة العرب، ومات أيضاً وهو محب لهم.
ماذا حدث في جزيرة العرب إبَّان وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى؟
كانت جزيرة العرب في العقد الذي سبق اندلاع الحرب العالمية الأولى تشهد مخاضات وإرهاصات في غاية الصعوبة، كانت تنتظر حالات خلاص مما كانت تعيشه من ضعف وتشتت وفتن، وما كان يشبه حروباً أهلية بين قبائلها المتعددة التي افتقدت إلى قيادات ترشدها إلى إطفاء نيران تلك الفتن التي أصبحت وكأنها قدر مكتوب على أبناء هذه الجزيرة.
ولكي نقرب الصورة إلى قارئ اليوم الذي تفصله عن أوضاع تلك الفترة أكثر من مائة وعشر سنين أقول له: إن جزيرتك العربية كانت مقسمة جغرافياً وسياسياً على النحو التالي:
1 - الحجاز وتمتد من العقبة شمالاً إلى الليث جنوباً وتضم مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة والطائف، وتضم موانئ صغيرة على البحر الأحمر مثل ينبع والوجه، ويسكن مدنها سكان حضر، أما مساحاتها الشاسعة فتسكنها العديد من القبائل البدوية أهمها قبيلة حرب وجهينة وعتيبة وغيرها من القبائل. لم تكن علاقة هذه القبائل بإخوانهم سكان المدن بالشكل الجيد الذي يضمن الطمأنينة للجميع، بل كانوا يعيشون في علاقة هي إلى التوتر والخوف وتوحش كل منهم تجاه الآخر أقرب.
هذه المنطقة الشاسعة والمهمة كانت خاضعة للحكم العثماني الذي كان بدوره في علاقة توتر دائم بين أطياف كل هذه التركيبة من السكان، فالإدارة العثمانية لم تكن لها قدرة على السيطرة وفرض الأمن، وهو المطلب الأول لأي تجمع سكاني. ومما زاد الطين بلة في عدم استقرار الأمن في ولاية الحجاز العثمانية انقسام السلطة فيها بين شريف مكة الذي عين بموجب فرمان من السلطان العثماني، وله صلاحية الإشراف على أحوال القبائل والوالي العثماني الذي يمثل سلطة السلطان في ولاية الحجاز. هذه الشراكة الثنائية في إدارة ولاية الحجاز كانت أحد مسببات اضطراب الأمن في ولاية من أهم مقومات الحياة فيها هو الأمن، ولا سيما أمن عشرات الآلاف من الحجاج الذين يفدون إلي الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج، فكان وصول هؤلاء في كثير من المواسم يعد من المستحيلات، وبطون كتب التاريخ مملوءة بأحداث المآسي التي كان يتعرض لها الحجاج.
2 - متصرفية عسير وعاصمتها أبها وتمتد من بلاد غامد وزهران وبيشه والقنفذة شمالاً إلى المخلاف أي جازان في الجنوب الغربي، وحتى ظهران الجنوب في الجنوب الشرقي. وفي بعض الأحيان كانت منطقة نجران تتبع إدارياً لمتصرفية عسير، وفي أحيان كثيرة يستقل أبناء نجران بإدارة منطقتهم بأنفسهم. هذه المتصرفية الواسعة تحكم من قبل الدولة العثمانية، وتسكنها المئات من القبائل المستقرة في تهامة والسراة، ولكن منذ وقوعها تحت الحكم العثماني في عام 1289هـ - 1872م وهي تعيش في حالة من عدم الاستقرار بسبب نفور أهلها من الحكم الأجنبي ورغبتهم الجامحة في الاستقلال بحكم بلادهم بأنفسهم.
هذه العلاقة المضطربة وغير المستقرة جعلت المنطقة تعيش في ما يشبه حالة ثورة دائمة على الرغم من الجهود التي بذلتها الدولة العثمانية في محاولات إحكام سيطرتها وإخضاع السكان لحكمها بالقوة، يقابل ذلك التضحيات الجسام والدماء الزكية التي ذهبت في سبيل محاولات السكان التحرر من الحكم العثماني.
3 - ولاية اليمن وهي أهم ولاية عثمانية في جزيرة العرب، سقطت عاصمتها صنعاء بدون مقاومة عام 1289هـ - 1872م تحت الحكم العثماني مباشرة بعد سقوط إمارة عسير في نفس العام، وكانت إمارة عسير تشكل الصخرة التي تكسرت لديها العديد من المحاولات العثمانية في إحكام كامل سيطرتها على جنوب الجزيرة العربية.
كان الحكم العثماني موجوداً في السواحل اليمنية - وعاصمة تمركزه مدينة الحديدة - منذ فترة مبكرة تعود إلى عهد انسحاب القوات المصرية - في عهد محمد علي باشا - من تلك المناطق في عام 1840م، وكانت تسمى ولاية اليمن إرضاء للغرور العثماني بأنهم يسيطرون على كل اليمن بينما نفوذهم كان لا يتجاوز مساحة ضيقة من السواحل اليمنية، ومع ذلك لم تكن قادرة على فرض الأمن فيها، ما جعل هذه المسألة - أي مسألة الأمن - مسألة خلاف وأحياناً صراعاً بين السلطات العثمانية - غير القادرة على تثبت الأمن - وبين إمارة عسير التي كانت تنظر إلى الأمن في كل المناطق المجاورة لحدودها كمسألة حيوية، وكثيراً ما تدخلت في شؤون هذه الولاية من أجل السيطرة على الأمن.
فرح العثمانيون بسيطرتهم على صنعاء، عاصمة اليمن التاريخية وقلب الهضبة اليمنية بقيادة عثمان باشا، وهو نائب قائد القوات العثمانية رديف باشا الذي سقطت إمارة عسير على يديه، فرحوا بسقوط صنعاء سلمياً، حيث كان سكان مدينة صنعاء قد أنهكتهم حروب القبائل بقيادة العديد من الأئمة الزيدية المتصارعين على من هو أحق بالإمامة، حتى أنه في بعض الأحيان يظهر في كل قبيلة إمام ما ويداهم بقوة قبيلته أو التحالف القبلي الإمام الذي سبقه إلى الاستيلاء على صنعاء، فظلت صنعاء على مدى العديد من القرون مدينة منكوبة بسبب ما تعرضت له على أيدي الأئمة والقبائل التابعين لهم مثلما تتعرض له اليوم على أيدي نفس القبائل والإمام الجديد الحوثي.
واعتقد سكان مدينة صنعاء بأن الحكم العثماني ربما يكون أرحم لهم من حكم الأئمة الضعاف الذين أصبحوا ألعوبة في أيدي القبائل.
ولكن لم تتم فرحة سكان صنعاء، فسرعان ما التفت القبائل حول أحد الأئمة، فسارع هذا بإشعال الثورة ضد العثمانيين، وظلت الثورات لا تنطفئ والقوات العثمانية لا تتوقف عن محاولة قمعها، وظل الحال كذلك إلى ثلاث سنوات قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى حيث وقعت الدولة العثمانية مع إمام اليمن اتفاقية دعان عام 1911م، فأصبح الإمام - من مقره في (صعده) - بموجب هذه الاتفاقية يحكم سيطرته شبه الكاملة على القبائل الزيدية في الهضبة اليمنية، أي أن الحكم العثماني - بمعني آخر - منحه ما يشبه الحكم الذاتي على اتباعه بما يكفل له استيفاء الزكاة وتطبيق الأحكام من قبل القضاة الذين يعينهم. ولكن ظلت اليمن بهضبتها وسواحلها تحت الحكم العثماني إلى نهاية سنوات الحرب العالمية الأولى كما سيأتي توضيحه.
4 - المحميات البريطانية
وتمتد هذه المحميات على امتداد السواحل العربية لجزيرة العرب، من عدن حيث مدخل البحر الأحمر في الجنوب الغربي وعلى امتداد السواحل اليمنية الجنوبية، ومن عمان شرقاً على امتداد سواحل الخليج العربي حتى الكويت شمالاً، هذا إذا استثنينا طبعاً سواحل الأحساء التي أحكم الملك عبد العزيز سيطرته عليها قبل حوالي سنة واحدة من اندلاع الحرب العالمية الأولى.
5 - وسط وشمال وشرق الجزيرة العربية (نجد)
هذه المنطقة الشاسعة من جزيرة العرب ذات الطبيعة الصحراوية كانت تشكل أهمية استراتيجية كبرى. يسكنها العديد من القبائل العربية بل وأهم قبائل العرب على الإطلاق. وهم يشكلون الغالبية العظمى من السكان والبقية تشكل الحاضرة، وهم ما يعرفون بحاضرة نجد، ويسكنون العديد من المدن والبلدات والقرى. هذا الجزء من جزيرة العرب لم يكن للدولة العثمانية يوماً وجود فيه، باستثناء سنوات محدودة من وجود قوات محمد علي باشا والي مصر في منتصف الجزء الأول من القرن التاسع عشر وهي تعد من الحالات النادرة.
في هذا الجزء المهم من جزيرة العرب ظهرت أهم حركة سياسية دينية في الجزء الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي، وهي قيام الدولة السعودية الأولى التي تمثل أهم كيان سياسي قام في هذا الحيز من جزيرة العرب على مدى تاريخها الطويل. امتد نفوذ هذه الدولة ليشمل معظم أنحاء الجزيرة العربية خلال فترة قصيرة. وقد تعرض هذا الكيان السياسي للعديد من التحديات، ووصل به الأمر لدرجة تقويضه مرتين بسبب تحالف قوى إقليمية تساعده قوى دولية، أو بسبب فتن داخلية، لكنه كيان سرعان ما ينهض ويستعيد مكانته وتأثيره.
كان لفترة سقوط الدولة السعودية في المرة الأولى التي استمرت لحوالي اثنين وثلاثين سنة أثرها البالغ في عودة الفتن والحروب الأهلية وقطع الطرق، وسيطرة القبائل وعودتها إلى ما كانت عليه قبل قيام هذا الكيان. وحينما استعادت الدولة السعودية مكانتها بعد هذه المدة عادت إلى منطقة نجد حالة الهدوء والاستقرار في ظل دولة فرضت سيطرتها على كل من اعتاد على خلق حالة الفوضى والخروج على القانون. وحينما دبت الفتن بين أفراد الأسرة الحاكمة مرة أخرى وتآمر المتآمرون وسقطت الدولة السعودية الثانية في عام 1873م وأجبر الحاكم الشرعي على ترك البلاد بعد محاولات يائسة لاستعادة السيطرة عام 1890م والعيش في المنفى في الكويت، عادت الفوضى مرة أخرى وافتقدت بلاد نجد إلى الأمن والاستقرار، وعادت القبائل إلى سيرتها الأولى في الاحتراب والسلب والنهب وغزو بعضهم بعضاً، وانعكس ذلك على استقرار المناطق المجاورة لنجد.
في هذه الأثناء حاولت الدولة العثمانية - التي أسهمت في سقوط الدولة السعودية الثانية واحتلت منطقة الأحساء وأطلقت عليها اسم (متصرفية نجد) - خلق كيان بديل عن الدولة السعودية ممثلاً في مساعدة بيت آل رشيد حكام حائل - الذين لم يظهر لهم حضور سياسي إلا في ظل الدولة السعودية الثانية - على القيام بحكم نجد، ولكن لا متصرف الأحساء العثماني ولا حاكم حائل العربي استطاعا أن يعيدا الأمن والاستقرار إلى نجد، وهي منطقة ذات أهمية كبرى، لأن استقرارها - أي نجد - ينعكس على استقرار كل المناطق المجاورة لها سواء في منطقة الخليج أو منطقة الحجاز أو بقية المناطق الأخرى ذات الصلة الجغرافية بنجد مثل العراق، وهذا أمر أدركه العقلاء من الحكام العثمانيين الذين تولوا ولاية الحجاز أو ولاية بغداد حينما كانوا يكررون على مسامع صانعي السياسة في استانبول أن استقرار المناطق المجاورة لنجد مرهون باستقرار نجد نفسها، واستقرار نجد لا يأتي إلا من خلال الاعتراف بنظام البيت السعودي الذي لم تشهد وسط الجزيرة العربية والمناطق المحيطة بها استقراراً في تاريخها مثلما شهدته وتشهده في ظل هذا الحكم السعودي.
في عام 1902م عاد مخلص نجد مما كانت تعيشه من فوضى واضطراب ومحن، عاد الملك عبد العزيز يحمل راية إعادة توحيد نجد والقضاء على كل ما تعيشه من ويلات وأهلها من تشتت واحتراب، استعاد الرياض ومنها كانت الانطلاقة نحو إعادة بناء الدولة السعودية على أسس مختلفة، متجنباً أخطاء الماضي على ضوء دراسة جيدة للتاريخ وقراءة المستجدات، وتقدير كل الظروف المحيطة بإعادة بناء دولته من كل جوانبها المحلية والإقليمية والدولية. وقد استفاد من سنوات المنفى في الكويت واطلاعه على المتغيرات الدولية، حيث شاهد أن هناك قوى دولية تنهض وأخرى - وإن كانت كبرى تقاتل - من أجل البقاء مع كل ما تتعرض له من الوهن والضعف - وهي الدولة العثمانية - التي لازالت تفرض سلطتها على معظم المناطق المحيطة بالفضاء الجغرافي والسياسي الذي يريد عبد العزيز التحرك فيه من أجل إعادة بناء دولته.
أما القوة الثانية فهي بريطانيا - وهي دولة عظمى لا تغيب الشمس عن مستعمراتها - فكانت تفرض هيمنتها على المياه المحيطة بجزيرة العرب، كما كانت تفرض سيطرتها على أهم منطقة عربية وهي مصر، هذا البلد الذي كان منطلقاً لجيوش الدولة العثمانية لإسقاط دولة أجداده الأولى عام 1818م.
ولكل من الدولتين قوى محلية تدور في فلكها، وما كان الملك عبد العزيز ليهتم بتلك القوى الدائرة في أفلاك الكبار، ولكن كان يهمه تفادي الاحتكاك مع الكبار مؤقتاً بقدر ما يستطيع وبقدر ما تسعفه حنكته ودهاؤه، حيث ولد قائداً موهوباً ووريث مجد يريد إعادة بنائه، بل يريده أن يكون أقوى مما كان عليه إبان فترات حكم أجداده الأوائل المؤسسين لحكم البيت السعودي.
وقد وظف من أجل تحقيق ذلك حاجة أهل نجد إلى قائد ذي كاريزما، فالتف معظمهم حوله حضراً وبدواً لأنهم كانوا يرون فيه المخلص لنجد من محنها، وما كانوا ليلتفوا حوله لو لم يروا فيه القائد المنتظر الذي يتقدم صفوفهم في كل معركة ويضحي بكل ما يملكه من أجلهم، ورأوا فيه صفات الزعيم العربي الذي يمثلهم والقيم التي يعتزون بها وهي الإقدام، القيادة، الفروسية والكرم، وهي صفات تبهر الإنسان العربي الأصيل.
وقد مضى قدماً في توحيد وسط نجد، ولم تتحقق هذه الخطوة بسهولة مع أن الخطوة التي تليها كانت هي الأكثر صعوبة، حيث تطلب تحقيقها الاحتكاك بنفوذ القوى المحلية المدعومة بنفوذ السلطة الشرعية التي تمثلها الدولة العثمانية، هذه السلطة - أي العثمانية - وإن كانت ضعيفة إلا أنه كان يعمل لها حساباً، فقد كان الوجود الفعلي العثماني في الأحساء، حيث توجد به مقر المتصرفية، وتمثل منطقة الأحساء بواحاتها الغنية وسواحلها الممتدة الجناح الشرقي الذي لا يمكن لأي دولة داخل نجد أن تقوم لها قائمة إن لم تكن الأحساء إحدى دعائمها. وكان هناك ابن رشيد خصمه التقليدي في الشمال في حائل، والحليف القوي للدولة العثمانية إن لم تكن هي مصدر قوته.
وهناك ولاية الحجاز، حيث كان عليها حكمٌ ثنائيٌ عثماني هاشمي، وكانت الدولة العثمانية ترى في حكمها للحجاز - حيث مكة والمدينة - أهم مصدر لإضفاء شرعية لقب الخلافة على ألقاب السلطان العثماني. هذه المناطق الثلاث أصيب من كان على رأس حكمها بالذعر والهلع لما تنامى إلى أسماعهم ما يحققه الملك عبد العزيز من انتصارات، فلم يتركوا وسيلة من وسائل التأليب والتحريض وجميع الوسائل الأخرى إلا وقاموا بها من أجل إيقاف هذا المارد المنطلق من وسط نجد، الذي انجذبت إليه معظم القبائل العربية لما رأت فيه من مواصفات القائد والحاكم العادل الذي لم تره في غيره ممن فرض حكمه عليهم بالقوة.
استولى الملك عبد العزيز على منطقة القصيم في عام 1904م, وهي أهم منطقة في وسط نجد وأقرب نقطة تماس مع نفوذ خصمه ابن رشيد في حائل, واستطاع ابن سعود أن يلحق هزائم كبرى بابن رشيد والجيش العثماني الذي قدم إلى القصيم لنصرته, ولكن ابن سعود آثر ألا يتقدم إلى حائل, ورأي أن من المصلحة والحكمة ترك أمرها إلى الوقت المناسب, ولم يحاول أن يغضب الدولة العثمانية, بل أكرم جيشها المنهزم على يديه بأن كتب إلى السلطان العثماني يعلن له أنه جندي من اتباعه، وانه لم يكن يهدف مما يقوم به في نجد إلا إلى تأمين منطقة لم تعرف الأمن والاستقرار منذ عقود طويلة.
وبعد أن حيد الدولة العثمانية على جبهة حائل اتجه إلى منطقة الأحساء بدعوة ملحة من أهل الأحساء أنفسهم الذين لم تعرف مدينتهم والمدن الساحلية الأخرى مثل القطيف وغيرها أمناً ولا استقراراً في ظل حكم عثماني ضعيف لا يستطيع جنوده حماية أنفسهم دعك من أن يحموا الناس من تعديات القبائل التي كانت تمارس جميع أنواع السلب والنهب والتعدي على المواطنين الحضر المستقرين، لدرجة أنها كانت تنهب أسلحة الجنود العثمانيين ثم تبيعها إياهم مرة أخرى في أسواق الأحساء!!