أستكمل ما بدأته الأسبوع الماضي حول معالجة الملك عبد العزيز للمشكلة الاقتصادية التي حصلت في عام 1347هـ/ 1929م والتي انعكست على البلاد بشكل كبير, فقد ضربت العاصفة الاقتصادية البلاد مثل صاعقة من السماء, واستمرت سنوات, وكان موسم حج عام 1347هـ/ 1929م واحداً من أسوأ مواسم الحج على الإطلاق, وما تبعه في السنوات اللاحقة؛ إذ بدأ عدد الحجاج يتناقص، ففي عام 1351هـ/ 1933م وصل عدد الحجاج إلى عشرين ألفاً, وانشغل الملك في تخصيص جزء كبير من وقته لدراسة الوسائل وبحث الإجراءات التي تكفل تحسين شؤون الحج وتنظم موسمه وتستقطب أعداداً كبيرة إليه.
أما الجمارك فقد قلَّ دخلها وبدأت بالتراجع بشكل مخيف، وزاد الأمور سوءاً ما تعرّضت له العملة من أزمة صرف وتذبذب وانخفاض أمام العملات الأجنبية، وهو ما استدعى تدخلاً من الدولة لا سبيل في الإفاضة فيه في هذه العجالة.
ومن تعقيدات تلك المرحلة أنّ الدولة كانت قد التزمت مقدماً بإنفاق دخلها على مشروعات تطويرية وتجهيزات للجيش، وكانت مدينة لجهات ارتبطت معها بعقود واستوردت منها حاجات, وصدر قرار بتأجيل دفع الديون وهو قرار قبل به الدائنون بشروط وعلى مضض..
وجعلت المسألة المالية تتفاقم يوماً بعد يوم، وحارت الحكومة في الأمر, وتلفتت تبحث عن مخرج, واضطرت إلى تأجيل دفع المرتبات, وإلى الاستدانة من التجار, وبدأ أهل الحجاز بالتململ, فعقد الملك مؤتمراً وطنياً ودعا إليه عشرين رجلاً من ذوي الخبرة والرأي ليشاركوه النظر في هذه الأزمة, وليعطوا رأيهم في حلها, وخرج المؤتمر بتوصيات نفذ بعضها, منها مثلاً: تعميم الريال السعودي في المناطق الأخرى مثل نجد وعسير.
كان على الملك إطالة بقائه في الحجاز يراقب الأزمة تتفاقم من سيئة إلى أسوأ وهو غير قادر على فعل شيء.
«جفت مصادر التمويل» و»الخزانة خاوية تماماً», ما جعل الملك يلجأ إلى دول أوربية في مقدمتها بريطانيا يطلب منها قرضاً؛ إلاّ أنّ الطلب رُفض لأنّ هذه الدول كانت تعاني من الأزمة نفسها.
و في ظل الأحوال الاقتصادية المتردية بدأ الملك في التفكير في موضوع التجارة مع السوفييت؛ فالبضاعة الروسية رخيصة, ثم إنها بقروض ميسرة طويلة الأجل, أمر لا يمكن رفضه في مثل تلك الظروف, وبالرغم من حساسية التعامل وقتها مع الاتحاد السوفييتي، إلاّ أنّ عبد العزيز اضطر إليهم لأنه أراد كسر الدائرة التي طوّقته بحصارها.
وظل الملك في حالة من الضيق, كان يبحث عن الوسائل والطرائق الكفيلة بمواجهة الأزمة, وكان الخط العام الواضح أن الحكومة لا تستطيع أن تأمل بالأمن والاستقرار دون أن تجد مصدراً يعتمد عليه يوفر لها الدخل اللازم أكثر من الاعتماد على دخل الحج غير الثابت الذي اعتمدت عليه الحكومة بشكل كامل.
وصل كارل توتشل Karl Twitchell إلى «جدة» في رحلة استطلاعية، للكشف عن إمكانات الماء والبترول في ساحل البحر الأحمر, وبقي مشغولاً في الكشف في أجزاء أخرى من جبال الحجاز يبحث عن الماء أو الذهب أو أي شيء آخر يثير الاهتمام.
وكانت هذه بداية اكتشاف الثروات المدفونة في باطن أرض المملكة التي جعلت منها دولة ثرية, وقد فتح اكتشاف توتشل للنفط في المنطقة الشرقية والذهب في الحجاز باب التنافس بين الشركات الأجنبية لتنمية مصادر المملكة ومواردها, وبنهاية عام 1351هـ/ 1932م كان المسرح معداً لبدء عرض قصة جديدة.
إنّ تاريخ النفط في المملكة معروف ولا يحتاج مني إلى تفصيل، ويكفي القول إنّ الأمريكان سرعان ما بدؤوا العمل وثبت وجود البترول بكميات تجارية بحلول عام 1935م (1353هـ), وفي عام1357هـ/ 1938م بدأ الإنتاج بكميات ليست كبيرة ومع الوقت ازداد الإنتاج بالعثور على آبار أخرى.
وقد تم تحديد اليوم الأول من مايو 1939م (12 ربيع الأول 1359هـ)، لتصدير أول شحنة من النفط من رأس تنورة في ناقلة بترول أمريكية, وشرف الملك الاحتفال الذي شهده عدد ضخم من المرافقين من المسؤولين السعوديين والأعيان.
ظل عبد العزيز على سرجه, ولم يمت إلاّ وقد أعاد تنظيم البلاد, وأزال الخوف من الأجانب من مشهد الصحراء, وأصبحت بلاده أقل اختلافاً عن بقية العالم عما كان عليه الحال من قبل, وضمن مستقبلها ضمن خطوط تتماشى مع النموذج العالمي..
ونجح عبد العزيز في مهمة بدت مستحيلة بإخراج قومه من العالم القديم إلى مشارف العالم الجديد.
و هذا هو حكم التاريخ.