أطلقت عليه الصحافة الفرنسية «الجرَّافة السياسية والنظرية»، وقالت عنه الإكونومست البريطانية: «طفرة حديثة في عدم المساواة حازت على تساءل جديد من الاقتصاديين، كما فعل ماركس وريكاردو، والتي قد تُوقف توزيع ثمار الرأسمالية على نطاق أوسع..».
إنه كتاب «رأس المال في القرن الحادي والعشرين» لمؤلفه الفرنسي توماس بيكتي. وقد استعرضته بحيادية في ثلاث مقالات ماضية ليتعرف عليه القارئ ويحكم بنفسه على كتاب بهذه الأهمية. والآن من المفيد عرض آراء أهم خبراء الاقتصاد والمفكرين لكي يحصل القارئ على تصور أفضل حول موقع الكتاب في الفكر الحالي.
للتذكير خلاصة الكتاب تتمثل في أن معدل النمو الاقتصادي (الدخل والناتج) ضعيف بينما عائد رأس المال (كأرباح الشركات وبيع الممتلكات والإيجارات العقارية) عال. وإذا بقي على هذه الحال، فالمرجح أن يزداد التفاوت في توزيع الثروة إلى مستويات عالية حيث تتركز الثروة (الموروثة غالباً) لفئة قليلة، لأن العائد من الثروة أكبر من العائد من العمل، فتنمو أسرع من الناتج وأجور العمل. زيادة التفاوت الطبقي قد تهدد المجتمعات الديمقراطية وقيم العدالة الاجتماعية والجدارة وتكافؤ الفرص؛ ما لم يتم إصلاح الرأسمالية عبر تدخل حكومي وتعاون دولي.
رغم تخصص الكتاب وجمعه لكمية هائلة من الأبحاث وطوله (685 صفحة) إلا أنه واضح وسهل، فهو موجه للعموم وللمتخصصين في آن معا، لأن القضية تخص الجميع كما قال المؤلف. هل نتائج واستنتاجات وتحذيرات الكتاب سليمة أم مبالغ فيها أم خاطئة؟ لا تزال النقاشات ساخنة حول الكتاب الذي ظهر في وقت تحولت المخاوف من معضلة التضخم إلى البلوتوقراطية (حكم الأثرياء) وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع مما يهدد المستقبل القريب للرأسمالية كما كتب ول هوتون عميد كلية هرتفورد بجامعة أكسفورد، الذي أشاد بالكتاب.. يمكن توزيع آراء الأكاديميين والخبراء إلى ثلاث فئات.
الفئة الأولى وهي الغالبية تتفق مع أطروحة الكتاب وتعتبره بارع وتاريخي.. وهي تضم حائزين على جائزة نوبل للاقتصاد مثل روبرت سولو وبول كروغمان.. وهذا الأخير أوضح أن أطروحة بيكتي «ترقى إلى نظرية متناسقة في عدم المساواة». «المؤرخ البريطاني أندرو هاسي اعتبر الكتاب «ملحمة» وعملاً سيؤدي إلى اكتشافات جديدة؛ ويشاطره الرأي المؤرخ الفرنسي إيمانويل تود؛ وكذلك برانكو ميلانوفيتش كبير خبراء الاقتصاديين السابق في البنك الدولي.
الفئة الثانية قد تشيد بالكتاب لكنها لا تتفق معه.. وأهم انتقاد وجه للكتاب والذي قد يتبادر للذهن، هو المبالغة في التركيز على التفاوت في توزيع الثروة وتهديده للمجتمعات الديمقراطية بغض النظر عن مستوى المعيشة الذي يتحسن في الدول المتقدمة والضمانات الاجتماعية فيها، فالمشكلة في التفاوت بالثروة لا تعني تردي مستوى المعيشة. مشابه لذلك طرح مارتين وولف (رئيس تحرير الاقتصاد بالفايننشال تايمز)، وزميله كلايف كروك الذي ذكر أن بيكتي لا يكتفي بأن يقنعنا أن التفاوت مهم بل يصر على أن لا شيء آخر يهم.. إنه يريدنا أن نقلق بسبب ضعف نمو الاقتصاد ليس لأنه يؤثر على مستوى المعيشة بل لأنه يفاقم التفاوت.
البروفيسور الأمريكي جيمس غالبريث ينتقده لاستخدامه إجراء تجريبي لا علاقة له برأس المال المادي المنتج والذي يعتمد قيمة الدولار، في جزء منه، على العائد من رأس المال. كما ينتقد البروفيسور الأمريكي لورانس سمرز أطروحة بيكتي لأنها تقلل من شان العائدات المتناقصة على رأس المال التي تعوض العائد على رأس المال وتضع حدا للتفاوت. وينتقد أيضاً فرضية بيكتي بأن عائدات الثروة تستنسخ نفسها إلى حد كبير لأن من شأن انخفاض نسبة الادخار أن تضع حدوداً عليا للتفاوت في المجتمع. كذلك البروفيسور الألماني ستيفان همبورغ ينتقد بيكتي لأنه يساوي بين الثروة ورأس المال. يقول همبورغ إن الثروة لا تتضمن فقط السلع الرأسمالية بمعنى وسائل الإنتاج المنتجة، ولكن أيضاً الأراضي والموارد الطبيعية الأخرى. (ويكيبيديا).
ننتقل من انتقادات الرأسماليين إلى الماركسيين. الماركسي الأكاديمي ديفيد هارفي، رغم أنه أشاد بنتائج الكتاب إلا أنه انتقد التعريف الخاطئ لرأس المال باعتباره الأوراق المالية لجميع الأصول التي يحتفظ بها الأفراد والشركات والحكومات التي يمكن تداولها في السوق بغض النظر عن استخدام هذه الأصول من عدمه. يقول هارفي أن رأس المال: عملية وليس شيئاً، إنها عملية التداول التي يتم فيها استخدام المال لكسب المزيد من المال في كثير من الأحيان، ولكن ليس حصراً من خلال استغلال قوة العمل. يقول هارفي أن مقترحات بيكتي لمعالجة عدم المساواة سذاجة إن لم تكن طوباوية؛ وإنه بالتأكيد لم ينتج نموذجاً صالحاً لرأس المال في القرن الحادي والعشرين، لأننا ما زلنا بحاجة لماركس أو نظيره في العصر الحديث.
الفئة الثالثة وهي أقلية، ترفض أطروحة بيكتي بالكامل، بل واعتبرها كريس جايلز مزيفة ومخادعة، وهو أكثر نقد أثار ضجة ونال تغطية واسعة. فقد كتب جايلز المحرر الاقتصادي في الفايننشال تايمز، مدعياً وجود أخطاء غير مبررة وتحريف النتائج التي توصل إليها، وإدخالات مقصودة في الجداول!! فيما ادعى محرر آخر في ذات الصحيفة (جودن وايزمان) أن الفحص يقوض زعم بيكتي بأن حصة متزايدة من إجمالي الثروة في حوزة أقلية غنية، مؤكداً أن الكتاب مليء بالأخطاء وقليل من الأدلة الأصلية تدعم أطروحته.
لكن اتهامات فايننشال تايمز لبيكتي بالتحريف واجهت نقداً حتى من شقيقتها الايكونومست، وحتى أولئك الذين يرفضون أطروحات بيكتي مثل سكوت ينشيب، البروفيسور في معهد مانهاتن لبحوث السياسات والناقد لبيكتي، يرى أنه: «من الصعب أن نفكر أنه فعل شيئاً غير أخلاقي عندما وضعها لأشخاص مثلي للخوض في أرقامه والعثور على شيء يبدو هزيلاً... بيكتي كان جيداً أو أفضل من أي شخص في جعل جميع بياناته متاحة وتوثيق ما يفعله عموما».. يبدو أن فايننشال تايمز بالغت في القضية وذهبت بعيداً جداً كما كتب كثيرون.
بيكتي اتهم انتقادات فايننشال تايمز بأنها غير أمينة؛ وقال: «الصحيفة كانت سخيفة لأن كل المعاصرين يدركون أن الثروات الأكبر نمت بشكل أسرع». أما كروغمان الحائز على نوبل فقد دافع عن أطروحة بيكتي بالقول: «أي شخص يتخيل أن الفكرة الكاملة في ارتفاع التفاوت في الثروة قد تم دحضها سيصاب بخيبة أمل.»