في حفظ اللسان، يقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (والذي لا إله غيره، ما على ظهر الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان) رواه الطبراني، ويقول عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: (خمس لكم من الدهم الموقفة -المراد بها الجياد الأصيلة من الخيول-لا تتكلم فيما لا يعنيك..
..فإنه فضول ولا آمن عليك الوزر -يعني الإثم-ولا تتكلّم فيما لا يعنيك أو فيما يعنيك، حتى تجد له موضعاً، فإنه ربّ متكلّم في أمر يعنيه، قد وضعه في غير موضعه، فعيب عليه فيه.
ولا تمار حليماً ولا سفيهاً، فإنّ الحليم يقليك، والسّفيه يؤذيك، وأذكر أخاك إذا تغيب عنك، بما تُحِبّ أن يذكرك به، وأعطه بما تحب أن يفيك منه، وأعمل عمل رجُلٍ، يرى أنه مجازى بالإحسان مأخوف بالإجرام ) رواه ابن أبي الدنيا.
ذلك أن كثيراً من الخصال الحسنة، ذات المردود الطيب، في حسن العلاقة مع الناس، ومع الله: محبّة ورضا، وحسنات تُرْصد يفرح بها المرء يوم المعاد، يوم يحصل ما في الصدور.
ففي مثل هذه الأمور لا يستطيع المرء أن يتغلب عليها، إلا بسيطرته على لسانه، ومماّ يعين على ذلك إذا أدرك الحكمة، التي أوجد سبحانه حواسّ العبد من أجلها، ووضيفتها التي هيئت لمنفعة الإنسان، ومن تجاوزها ولم يرعها، تحوّلَتْ غصة عليه، نفهم هذه الحكمة الإلهية، بما قرّبه ابن قيم الجوزية، في كتابه: التبيان في أقسام القرآن، حيث قال باختصار: جعل الله سبحانه على اللسان غلقين -أي قفلين-أحدهما الأسنان، والثاني الفم الذي يقفل بالشفتين، وجعل حركته اختيارية، وجعل على العين غطاء واحداً، وهو الجفن، ولم يجعل على الأذن غطاء.
وذلك لخطر اللسان وشرفه، وخطر حركاته، وكونه في الفم، فهو بمنزلة القلب في الصدر، وذلك من اللّطائف، فإنّ آفة الكلام، أكثر من آفة النظر، وآفة النظر أكثر من آفة السّمع.. فجعل سبحانه للأكثر آفات طبقين، وللمتوسط طبقاً واحداً، وجعل الأقل آفة بلا طبق (ص 311).
وهذه الأفعال التي تحجز اللسان، وسماهما ابن قيم الجوزية (غلقين) يعني قفلين، حكمة من الله لكي تتحكم في منطوق اللسان، كالحراس عند الأبواب، للتحكم فيما يدخل ومن يمنع، فالمراد أن هذين الغلقين من أجل رد اللسان عن التلفظ بما لا يستحسن، ولأن خطر الأذنين بالسماع، أقل من خطر اللسان بالكلام، فقد نهى الله سبحانه عن سماع كلام الخائضين في الآية في كلام الله، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الجلوس لمن ينتهكون أغراض الناس، لأن سماع كلامهم مدعاة للميل إليهم، ثم يتبع ذلك الحديث المتبادل الذي تتغير به المفاهيم، ليدخل في القلوب، ومن ثم تتجاذب المودة، والآية الكريمة التالية، توضّح نتيجة هذا الجلوس مع من يخوض في آيات الله، ويكفر بها، يقول سبحانه: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (140) سورة النساء.
وما ذلك إلا أن المجالسة تعني المؤانسة والتأثير بالجليس فكراً وعقيدة، والابتعاد عن مثل ذلك، فيه حفظ عن التأثير، والركون إلى الآخر، وما يضمرون، ثم المحبة.
كما أن في البعد عنهم، حفظ للمجتمع، وحماية للنفس من الأضرار ومدخل للتصافي والمحبة بين أفراد الفئة المؤمنة، حتى لا تنفتح ثغرة، تضرّ بالمجتمع الإسلامي، والحكمة التي قيلت: بأن الصمت حكمة وقليل فاعله، لأن ما يصل إلى الأذنين، يجب على الإنسان أن ينقيه، فلا ينبغي للقلب، أن يعقل منه إلا ما هو ظاهر نفعه، بيّن أثره الحسن، على المتلقّي، ويبعدُ عنه بعد الغربلة والتصفية، ما لا خير فيه، لأنه كغثاء السيل لا يفيد وقوداً، ولا تسقف به البيوت، لعدم نفعه.
ومن باب أولى: فالواجب عدم توجيهه للّسان ليظهر الأثر كلاماً، أو استجابة واستحساناً، لأن من سوء الحال نشر ما بأن ضرره على الدين، أو الخلق أو الأمن كما دلت الآية، وإلا أعتبرُ المؤيد بالسماع، كصاحب الحديث مبتدئاً: (إنكم إذاً مثلهم) وهذا نظير صحبة الأردى، كما قيل: ولا تصحب الأردى، فتردى مع الردي.
فقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، على امرأتين أُخبر عنهما، عليه الصلاة والسلام، أنهما قد أنهكهما الصيام حتى كادتا تهلكان، فهل يأذن لهما في الفطر؟. فدعا عليه الصلاة والسلام بإناءين فطلب أن تقيئا فيهما فقاءتا لحماً عبيطاً، ودماً، فقال: (إنهما صامتا عماّ أباح الله، وأفطرتا على ما حرم الله، إنما كانتا تأكلان لحوم الناس) يعني بالغيبة والنميمة.
والغيبة والنميمة إنما هي باللسان، عندما أطلقتا لسانيهما في أعراض الآخرين الغافلين، سواء كانوا رجالاً أو نساءً، وهو أمر محرم، وقد جعل علماء الإسلام: أن الغيبة والنميمة، والكذب من كبائر الذنوب، وقالوا: كلّ ذنب جاء فيه وعيد وتحذير عن الله أو عن سنة فهو كبيرة، من كبائر الذنوب التي قال الله فيها: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مُدخلاً كريماً ) (النساء الآية 31).
وبعد أن مدح الله المحسنين، وما لهم عند الله من جزاء الحسنى، أعقب ذلك سبحانه بأنهم يجتنبون الكبائر فقال سبحانه: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} (31) سورة النساء.
إن الناس في ليلهم ونهارهم، يُتْعِبُون حواسهم: اللسان كلاماً والأذان سماعاً، والفؤاد تعقلاً وتعلقاً، ولا شكّ أن كلّ ذلك مقيّد، ويُعرضُ على الله في يومي الخميس والاثنين من كل أسبوع، فيمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب، فما أعدّ كلّ منا لهذا الموقف؟ وهل حرصنا بأن يُنَقّى كلامنا من الشوائب، التي يعاقب الله عليها كذبـِاً وغيبة، ونميمة، وبهتاناً وشهادة زور، وقولاً آثماً، ومثل ذلك بقية الحواس، لنراجع النفوس قبل فوات الأوان.
قال المفسرون: يُثبتُ الله الخير، ليصبح في صحيفة الحسنات مقيّداً، إن كان خيراً، أو في صحيفة السيئات، بحسب نية ومراد القائل.. وقالوا: إنّ الذي يُمْحَي مثل الكلمات العادية، التي لم يُرِدْ القائل منها حُسناً ولا سُوءً، مثل قمت شربت أكلت، جلست.
ولا ننسى أن للنيّة دوراً كبيراً في أيّ عمل يقيدّ حسب النية، التي لا يعلمها إلا الله، ثم قائلها لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته لله ورسوله، فهي لله ولرسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصبيها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه). متفق عليه.
لذا كان سلفنا الصالح يحرصون على مراقبة ووزن الكلمة، وميزانها ودلالتها، سواء تلفظ بها الإنسان، أو سمعها فتأثر بسوئها وما تدل عليه.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يحرص على صيام: يومي الاثنين والخميس، ويقول: (أحبّ أن يعرض عملي على الله وأنا صائم). فمن منّا يتذكر هذا الحديث، ليقول خيراً أو ليصمت، حتى يحفظ اللسان من الزلل والانفلات، بما يكون في صحيفة السيئات، ومن منّا يضع نُصب عينيه، إذا أصبح كلّ يوم: عمل المصاحِبَيْن له من الملائكة، وكلّ منهما معه صحيفته وقلمه، مستعدّ ليكتب ما يلفظه المرء؟!.
من الشرّ في دعوة لتجنّبه، رأفة بناء وخوفاً علينا.. ولكننا لا نراهم ولا نسمع نداءاتهم، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخبرنا عن ذلك، أليس ربنا يقول في سورة الإسراء: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (36) سورة الإسراء، ونهى رسول الله عن التحدث عن الآخرين، فقال رجل يا رسول الله: أرأيت إن كان ما قلته هو فيه؟ فأجابه الهادي البشير بقوله: (إن كان ما قلته فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته) وكان يؤدب أصحابه بالمجهول، لأنه لا غيبة لمجهول، ويقول: ما بال أقوام يفعلون كذا، أو يقولون كذا، ولا يسميهم وهذا أرأف وأحسن، وأطيب للنفوس وأطهر للقلوب.
قاطع طريق يتفلسف:
ذكر التنوخي في كتابه الفرج بعد الشدة، قال: حدثني عبدالله بن عمر، المعروف بأبي أحمد قال: كنت مسافراً في بعض الجبال، فخرج علينا ابن سباّب الكُرديّ، فقطع علينا، وكان بزيّ الأمراء، لا بزيّ قطاع الطريق.
فقربت منه لأنظر إليه، وأسمع كلامه، فوجدته يدل على فهم وأدب، فداخلته فإذا برجل فاضل يروي الشعر، ويفهم النحو فطمعت فيه، وعملتُ في الحال أبياتاً مدحته بها، فقال لي: لستُ أعلم إن كان هذا من شعرك، ولكن اعمل لي قافية، هذا البيت ووزنه شعراً الساعة، لأعلم أنـّك قلته، وأنشدني بيتاً.
قال: فعملت في الحال، إجازة له ثلاثة أبيات، فقال لي: أي شيء أخذ منك؟ لأردّه عليك.
قال: فذكرت له ما أخذ مني، وأضفت إليه قماش رفيقين كانا لي، فردّ جميع ذلك، ثم أخذ من أكياس التجار التي نهبها، كيساً فيه ألف درهم، فوهبه لي، قال: فجزيته خيراً، ورددته عليه.
فقال لي: لِمَ لَمْ تأخذه؟. فوريتُ عن ذلك. فقال: أحبّ أن تصدقني؟ فقلت: وأنا آمن؟
قال: أنت آمن. فقلت: لأنك لا تملكه، وهو من أموال الناس، الذين أخذتها منهم الساعة ظلماً، فكيف يحل لي أن آخذه؟
قال: أما قرأت ما ذكره الجاحظ في كتاب اللصوص، عن بعضهم قال: إن هؤلاء التجار خانوا أماناتهم، ومنعوا زكاة أموالهم، فصارت أموالهم مستهلكة بها، واللصوص فقراء إليها، فإذا أخذوا أموالهم -وإن كرهوا أخذها، كان ذلك مباحاً لهم، لأن عين المال مستهلكة بالزكاة، وهؤلاء يستحقون أخذ الزكاة، بالفقر شاء أرباب الأموال أم كرِهُوا. قلتُ: بلى قد ذكر الجاحظ هذا، ولكن من أين يُعلم أن هؤلاء، ممن استهلكت أموالهم الزكاة؟
قال: لا عليك، أنا أحضر هؤلاء التّجار الساعة، وأريك بالدليل الصحيح، أن أموالهم لنا حلال، ثم قال لأصحابه: هاتوا التجار، فجاءوا فقال لأحدهم: منذ كم أنت تتّجر في هذا المال الذي قطعنا عليه؟ قال: منذ كذا وكذا سنة. قال: فكيف كنت تخرج زكاته؟ فتلجلج، وتكلم بكلام من لا يعرف الزكاة على حقيقتها، فضلاً عن أن يخرجها، ثم دعا آخر، فقال له: إذا كان معك ثلاثمائة درهم، وعشرة دنانير، وحالت عليك السنة، فكم منها للزكاة؟ فما أحسن أن يجيب.
ثم قال لآخر: إذا كان معك متاع للتجارة، ولك دين على نفسين، أحدهما ملئ والآخر معسر، ومعك دراهم، وقد حال الحول على الجميع كيف تخرج زكاة ذلك. قال فما فهم السؤال، فضلاً عن أن يتعاطى الجواب.
فصرفهم ثم قال لي: بان لك صدق حكاية الجاحظ؟ وأن هؤلاء التّجار ما زكّوا قط؟ خذ الآن الكيس.
قال: فأخذته وساق القافلة لينصرف بها، فقلت: إن رأيت أيها الأمير، أن تنفذ معنا من يبلغنا المأمن، كان لك الفضل، ففعل ذلك.
(الفرج بعد الشدة، 4: 231-233).