22-08-2014

رجال صدقوا : عبد الله بن المبارك

واحد من كبار الزهّاد الوعّاظ، ورجال العلم المرموقين، إنه عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي، التركي الأب، الخوارزمي الأم، أبو عبد الرحمن، العالم الفقيه، المحدّث المفسّر المؤرّخ النحوي اللغوي الصوفي، فقد جمع بين صفات عديدة، ومعارف واسعة،

وُلد عام 118هـ وتوفي بقرية هيت الواقعة على نهر الفرات في رمضان عام 181هـ في منصرفه من الغزو.

يقول عنه ابن خلّكان: كان قد جمع بين العلم والزّهد، وكان كثير الانقطاع، محباً للخلوة، وكان شديد التورّع، وكذلك كان أبوه.

يحكى عن أبيه أنه كان يعمل في بستان لمولاه، وأقام فيه زماناً، ثم إنّ مولاه جاءه يوماً، وقال له: أريد رمّاناً حُلْوًا؟ فمضى إلى بعض الشجر وأحضر منها رماناً فكسره فوجده حامضاً، فغضب عليه، وقال له: أطلب الحلو فتحضر بالحامض، هات حلوًا؟ فمضى وقطف من شجرة أخرى، فأعطاه، فلما كسره وجده حامضاً أيضاً، فاشتد غضبه عليه، فقال: لا، وفعل كذلك دفعة ثالثة، فقال له مولاه فيما بعد: أما إنك ما تعرف الحُلو من الحامض؟ فقال: لا، فقال: كيف ذلك؟ فقال: لأنني لم أكن أكلت منه شيئًا حتى أعرفه، فقال: ولِمَ لمْ تأكل؟ قال: لأنك ما أذنت لي، فكشف عن ذلك فوجد قوله حقاً، فعظم في عينه، وزوّجه ابنته. ويقال: إنّ عبد الله هذا رزقه الله من تلك الابنة، فنمت عليه بركة أبيه.

قال ابن خلّكان: ورأيت في بعض التواريخ، أنّ هذه القصة منسوبة إلى إبراهيم بن أدهم، العبد الصالح في الوعظ. وكذا ذكرها الطرطوشي في أول كتاب سراج الملوك لابن أدهم.

ثم يقول: وقفت في كتاب: النصوص على مراتب أهل الخصوص عن أشعث بن شُعْبة المعصيحي، قال: قدم هارون الرشيد الرقة، فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك، وتقطعت النعال، وارتفعتْ الغبرة، فأشرفتْ أم ولد أمير المؤمنين في برج الخشب، فلما رأت الناس قالت: ما هذا؟ قالوا لها: عالم خراسان قدم الرقة، يُقَالُ له: عبد الله بن المبارك. قالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون الرشيد، الذي لا يجمع الناس إلاّ بشُرط والأعوان.

وقال عند الذهبي: الإمام الشيخ، عالم زمانه وأمير الأتقياء، في وقته الحافظ الغازي، أحد الأعلام، وكانت أمه خوارزمية، وطلب العلم وهو ابن عشرين سنة. ومن حبه لطلب العلم فقد تحيل حتى دخل السجن، على الربيع بن أنس الخراساني، وكان مسجوناً، فسمع منه نحواً من أربعين حديثاً، ثم ارتحل في سنة إحدى وأربعين ومائة 141هـ معه، وأخذ عن بقايا الآخرين من التابعين، وذكر منهم نحو خمسين، وأكثر من الترحال والطواف، إلى أن مات في طلبه للعلم، وفي الغزو وفي التجارة، والإنفاق على الإخوان وتجهيزهم معه للحج.

يقول أحمد بن شعبان القطاني: بلغني أنّ ابن المبارك أتى حماد بن زيد، فنظر إليه فأعجبه سماعه، فقال له: من أين أنت؟ قال: من أهل خراسان من مرو، قال: تعرف رجلاً يقال له: عبد الله بن المبارك؟ قال: نعم قال: ماذا فعل الله به؟ قال: هو الذي يخاطبك، فقام وسلم عليه ورحب به، ثم جلس عنده وأخذ عنه.

أما إسماعيل الخطبي فيقول: بلغني عن عبد الله بن المبارك أنه حضر عند حماد بن زيد، فقال أصحاب حماد من أهل الحديث، لحماد: سلْ أبا عبد الرحمن أن يُحدثنا؟ فقال له: يا أبا عبد الرحمن تحدثهم، فإنهم قد سألوني؟ فقال: سبحان الله، يا أبا إسماعيل أحدث وأنت حاضر؟ فقال: أقسمت عليك لتفعلن.. فقال خذوا: حدثنا أبو إسماعيل حماد بن زيد.. فما حدث بحرف إلا عن حماد بن زيد.

يقول محمد بن عبد الوهاب الفراء: ما أخرجت خراسان مثل هؤلاء الثلاثة: عبد الله بن المبارك والنضر بن شميل، ويحيى بن يحيى، ويقول العباس بن مصعب: جميع عبد الله بن المبارك: الحديث والفقه والعربية، وأيام الناس والشجاعة والتجارة والسخاء والمحبة عند الفرق.

وكان ابن المبارك إذا كان وقت الحج، اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو، فيقولون: نصحبك. فيقول: هاتوا نفقاتكم، فيأخذ نفقاتهم، فيجعلها في صندوق، ويقفل عليها، ثم يكرمهم ويخرجهم من مرو إلى بغداد، فلا يزال ينفق عليهم، ويطعمهم أطيب الطعام، وأطيب الحلوى، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زيّ وأكمل مروءة، حتى يصلوا إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول لكل واحد منهم، ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طُرفها؟ فيقول كذا وكذا، ثم يخرجهم إلى مكة، فإذا قضوا حجهم، فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يعود إلى مرو، فيجصص بيوتهم وأبوابهم، فإذا كان بعد ثلاثة أيام، عمل لهم وليمة وكساهم، فإذا أكلوا وسرّوا، دعا بالصندوق، ففتحه، ودفع لكل رجل منهم صُرّته وعليها اسمه.

وعُرف عنه كثرة الإنفاق، وله تجارة مباركة، وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم.

وقد جاء إليه رجل فسأله أن يقضي دينه الذي عليه، فكتب له إلى وكيل له، فلما ورد عليه الكتاب قال له الوكيل: كم دينك الذي عليك سألته قضاءه؟ قال: سبع مائة درهم، وإذا عبد الله بن المبارك قد كتب للوكيل، أن يعطيه سبعة آلاف درهم، فراجعه الوكيل، وقال: إن الغلات قد فنيت، فكتب إليه عبد الله، إن كانت الغلات فنيت فإنّ العمر أيضاً قد فني، فأجر له، سبق قلمي.

وقد عوتب فيما يفرّق من المال، في البلدان دون بلده، فقال: إني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق، طلبوا الحديث فأحسنوا طلبه، لحاجة الناس إليهم، احتاجوا فإن تركناهم ضاع علمهم، وإن أعناهم بثوا العلم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم، وإعانة طُلابه وإعانتهم على التفرغ له.

يقول يعقوب بن إسحاق: حدثني محمد بن عيسى قال: كان ابن المبارك كثير الاختلاف إلى طرطوس، وكان ينزل الرقة في الخان - وهو بمثابة الفندق حديثاً - فكان شاب يختلف إليه، ويقوم بحوائجه، ويسمع منه الحديث، فقدم عبد الله مرة فلم يره، فخرج إلى النضير مستعجلاً، فلما رجع سأل عن الشاب، فقالوا: محبوس على عشرة آلاف درهم دين عليه، فاستدل على الغريم فوزن له عشرة آلاف درهم، وحلّفه ألا يخبر أحداً، ما عاش فأُخرج الرجلُ، وسرى ابن المبارك من ليلته، فلحق الفتى على مرحلتين في الرّقة، فقال له: يا فتى أين كنت؟ لم أرك، قال: يا أبا عبد الرحمن كنت محبوساً بدين، قال: وكيف خلصت؟ قال: جاء رجل فقضى ديني، ولم أدر، قال: فاحمد الله.. ولم يُعلم الرجل إلا بعد موت ابن المبارك، أنه هو الذي قضى دينه.

وقد سئل ابن المبارك عن أول زهده؟ فقال: إني كنت يوماً في بستان، وأنا شاب مع جماعة من أترابي، وذلك في وقت الفواكه، فأكلنا وشربنا، وكنت مولعاً بضرب العود فقمت في بعض الليل، وإذا غصن يتحرك تحت رأسي، فأخذت العود لأضرب به فإذا بالعود ينطق وهو يقول: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} الآية [الحديد: 16]. قال عبد الله: فضربت بالعود الأرض فكسرته، وصرفت ما عندي من جميع الأمور التي كنت عليها، مما شغل عن الله، وجاء التوفيق من الله تعالى، فكان ما سهل لنا من الخير بفضل الله ورحمته. وله أخبار كثيرة وردت في كتب السير والتاريخ.

ولعبد الله طريقة حسنة في النقاش والتعليم، ومنهج متميز في الإقناع، والولوج إلى القلوب فهو مثلاً يقول: قدمت الشام على الأوزاعي - قريته ببيروت - فقال لي: يا خراساني من هذا الذي خرج بالكوفة؟ يعني أبا حنيفة - فرجعت إلى بيتي، فأقبلت على كتب أبي حنيفة، فأخرجت منها مسائل من جياد المسائل، وبقيت في ذلك ثلاثة أيام، فجئته يوم الثالث، وهو مؤذن مسجدهم وإمامهم، والكتاب في يدي. فقال: أي شيء هذا الكتاب؟ فناولته، فنظر في مسألة منها، وقعت عليها، قال النعمان بن ثابت.. فما زال قائماً بعد ما أذن حتى قرأ صدراً من الكتاب، ثم وضع الكتاب في كمه ثم أقام وصلى، ثم أخرج الكتاب حتى أتى عليها، فقال لي: يا خراساني، من النعمان بن ثابت هذا؟ قلت: شيخ لقيته بالعراق. فقال: هذا نبيل من المشايخ، اذهب فاسأله منه. قلت له: هذا أبو حنيفة الذي نهيت عنه.. فرحم الله علماءنا فإنّ ما وصل إلينا من أعمالهم يرغب في الاستزادة، لأنّ سرائرهم نقية الوصول إلى الحق واتباعه ونبذ الهوى.

كان أول شيخ لقيه في طلب العلم، وعمره 20 سنة هو الربيع بن أنس الخراساني، تحيّل ودخل إليه إلى السجن، فسمع منه نحواً من أربعين حديثاً، ثم ارتحل في سنة 141 إحدى وأربعين ومائة، وأخذ عن بقايا التابعين، وأكثر من الترحال والتطواف.

وعدّ الذهبي أسماء من سمع منهم 36 شيخاً، منهم أبوحنيفة ومالك وابن عيينة، والليث بن سعد والحمادان، ثم قال: وخلق كثير، وسمع منه خلق أيضاً، وحديثه حجة بالإجماع، وهو في المسانيد والأصول، ومما حدّث به عبد الله بن المبارك عن يونس بن زيد، عن الزهري عن سهل بن سعد الساعدي، عن أبي بن كعب قال: إنّما كانت الفُتْيا في «الماء من الماء» رخصة في أول الإسلام، ثم نُهي عنها.

وقال العباس بن مصعب، في تاريخ مرو: كانت أم عبد الله بن المبارك خوارزمية، وأبوه تركي، وكان عبداً لرجل تاجر من هَمَدان، من بني حنظلة، فكان عبد الله إذا قدم همدان يخضع لوالديه ويعظمهما.

وسُمع من أبي أسامة قوله: ابن المبارك في المحدثين، مثل أمير المؤمنين في الناس، وقال الإمام الأوزاعي لعبد الرحمن بن زيد: هل رأيت ابن المبارك؟ قال: لا. قال: لو رأيته لقرّت عينك.

وحدّث معاذ بن خالد قال: تعرّفت إلى إسماعيل بن عياش بعبد الله بن المبارك، فقال إسماعيل: ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك، ولا أعلم أنّ الله خلق خصلة من خصال الخير، إلاّ وجعلها في عبد الله ابن المبارك.

وعن شجاعته في الجهاد في سبيل الله، حدّث عبده بن سليمان المروزي قال: كنا سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو، فلما التقى الصفان، خرج رجل من العدو، فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه رجل فقتله، ثم آخر فقتله، ثم ثالث فقتله، ثم دعا على المبارزة، فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله، فازدحم إلى هذا الفارس الناس، الذي قتل الرومي، فنظرت إليه فإذا هو عبد الله بن المبارك، وإذا هو يكتم وجهه بكمه، فأخذت بطرف كُمه فمددته فإذا هو هو، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنّع علينا. وأخباره كثيرة في كتب التراجم، وعند العلماء وفي مصادر أمهات الكتب، وكان مُستجاب الدعوة، قال الخطيب في كتابه تاريخ بغداد: إنّ ابن المبارك مرّ برجل أعمى، فقال له: أسألك أن تدعو لي أن يرد الله عليّ بصري، فدعا له، فردّ الله عليه بصره، والراوي ينظر.

وأصحاب الدعوة المستجابة في سجل رجال الإسلام العارفين كثيرون، ولعلهم طبقوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله أن يكون مستجاب الدعوة، فقال له رسول الله: (أطِبْ مطعمك تكُن مستجاب الدعوة).

mshuwaier@hotmail.com

مقالات أخرى للكاتب