ليس غريباً أن ينقلب حوارٌ ما إلى شجار.. وليس غريباً أن نجد صعوبة في اتخاذ الحوار أداة للوصول إلى اتفاقات أو حلول وسط.. بل ليس غريباً أن تتفجر قضايا سياسية أو اقتصادية أو غيرها من القضايا بسبب حوارات متشنجة ومعارك كلامية، ما تلبث أن تتحول إلى صراعات دامية قد تدمر كل فرص التوافق والتعاون بين الأطراف المختلفة.
في حياتنا المعاصرة.. تبدو الثقافة العربية بعيدة كل البعد عن الأخذ بثقافة الحوار التي تعتمد على التسليم باختلاف وجهات النظر وتقبل الرأي والرأي الآخر والاعتراف بأن أحداً لا يملك الحقيقة المطلقة باعتبارها منطلقاً إلى الاتفاق والتوافق.. ما يسود ثقافتنا العربية وللأسف نماذج ورموز هدفها تجفيف منابع الحيوية.. وتعطيل القدرة على التساؤل والإبداع والجدل بالحسنى والحوار بالمنطق ليتحول الحوار إلى أداة من أدوات الخداع والتضليل والإيهام والتمويه.. أو إلى اتهامات وحرب كلامية واستفزازات لفظية وهنا لن يكون الحوار فناً من فنون التخاطب كما يُوصف.
ونظراً لاتساع وتعدد أساليب وأدوات الحوار فيكاد يكون الحوار الإعلامي أبسط أشكال الحوار وأكثرها مباشرة واتصالاً بين الأطراف وقد أدى انتشار البرامج الحوارية في الفضائيات إلى أن يكون جمهور المشاهدين طرفاً مشاركاً في كثير من الحوارات انطلاقاً من مبدأ الخروج عن قيود السجال الضيقة التي كانت تفرضها مناقشات الغرف المغلقة.. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل الإعلام العربي نجح في تقديم برامج حوارية تتميز بالعقلانية والانفتاح على كل الاتجاهات وبالتالي البعد عن نوازع السيطرة وحسابات الربح والخسارة وأساليب الاستخفاف والسخرية وتوجيه الاتهامات أو تجريح الآخرين والطعن في السلوكيات والأخلاق.
في حقيقة الأمر نحن العرب لا تنقصنا لغة الحوار ولا مشاركة ودعوة أطراف عديدة ومختلفة إلى الحوار لكن ما ينقصنا فعلاً هو روح الحوار بمعناه الإيجابي.. الحوار الذي يفيض صراحة واحتراماً وتقديراً لشخصية وآراء الآخرين حتى وإن كان هناك اختلاف في وجهات النظر أو الآراء.. ينقصنا الالتزام بقواعد وأساسيات الحوار واحترام الحق في الخلاف والاختلاف.
تأمل معي أيها القارئ العزيز مشهد الوطن العربي وما يعصف به من اضطرابات.. وما يعانيه من صراعات وانقسامات يندى لها الجبين ثم قارن ذلك بما يُعقد من مؤتمرات وما يُعرض في الفضائيات من بعض برامج يُقال بأنها حوارية.. وفي حقيقتها أبعد ما تكون عن روح الحوار، بل إنها أقرب ما تكون إلى صورة من صور صراعٍ بين أطراف تمثل أطيافاً أو أحزاباً مختلفة أملت عليهم التطورات السياسية أو الصراعات المذهبية والطائفية وقادتهم إلى سجال سفسطائي وجدال بيزنطي ينتهي بشجار وعراك ويوظفه ويستغله كل طرف لصالح من يوالي.. إما التفافاً على الحقائق أو هروباً من أن تتسع الفجوة بين المعلن والمستتر من الأقوال والأفعال.. أو فضحاً للمخططات السرية لأي طرف من الأطراف.
في بيئتنا العربية لم يعد الحوار بيئة تحتضن قول: (رأيي صواب يحتمل الخطأ.. ورأيك خطأ يحتمل الصواب) وبيئة كهذه لن ينشأ فيها حوار عقلاني تتراجع فيه عوامل الأثرة والنرجسية والمكابرة ولن يسفر أي حوار عن نتائج إيجابية في ظل سيادة غوغائية السياسة وسط عالم مضطرب يعج بالصراعات الطائفية والخلافات المذهبية وتضاعف الانقسامات بين زعماء الكتل والأحزاب والطوائف التي ما تكاد تتفق حتى تختلف وما تكاد تتوحد حتى تتفرق وما تكاد تتبنى حلاً اليوم حتى تنقضه في الغد.