خالد الفيصل الأمير الذي يحبه الجميع لأنه ذو كريزما خاصة وبحضور مختلف دائماً، يمنح المكان والزمان خصائص الانبهار، أمير الإبداع والتميز والكلمة والفكر والألوان، ذو النظرة البعيدة وذو السمو الذي أجمعت أدوات الثقافة على احترافيته واحترامه..
..الأمير المتذوق لسحر الموقف والكلمة والهوية، الحاضر المتوقد الذي لا يسمح بتفلت الأشياء من بين يديه ليجبرها أن تكون شاهداً له وليس عليه على الأقل في أدبيات التاريخ الخالد، ويكفيه فخراً تسليمه قيادة التربية والتعليم من قبل سيدي خادم الحرمين الشريفين في وقت يحتاج التعليم والتربية على السواء إلى رسم خارطة طريق للأجيال القادمة، ولذلك لم يكن لهذه الثقة الملكية إلا الخالد الفيصل، وبالرغم من جهود سموه الكثيرة إلا أن الإنصاف لا ينسى له موقفين خالدين في حق اللغة العربية، لم يكونا إلا درساً أخلاقياً في الهوية في مدرسة الحضارة الخالدة:
أحدهما قديم، وقد كتبت عنه مقال في يوم الخميس 14/ محرم / 1431هـ في الجزيرة ذي العدد (13608) وبعنوان: «من الأديب مالك حداد... إلى الأمير خالد الفيصل..اللغة العربية.. ذات شجون»، وكان عطفاً على سؤال في المؤتمر الصحفي الذي عقده بعد انتهاء الحج في تلك السنة، وكان الجميع يتابعون بدقة تفاصيل الأرقام وتطبيق النظام وعدد المخالفات.. حينما طلب من الأخت المصرية أن تسأل وتتحدث بالعربية، فاستجابت لرغبته بوعي تام ولم يقتصر على هذا بل أجاب بلغة عربية سليمة على من سألت بغير العربية، وكان الخالد آنذاك يعطي برباطة جأش وشموخ الواثق درساً في الهوية، لم تعكره أحداث فيضانات جدة الكارثية...
والآخر حديث، وكان قبل أيام حينما سأل «أين العربية»؟ وهكذا تساءل بعدما ألفى نفسه «غريباً» وكأنه أبو الطيب المتنبي في شعب بوان الشهير في حفلة «إنجاز السعودية» في جدة، والذي يحتفي فيه ببرامج وثيقة الصلة بتوجهات الوزارة، إذ غضب وزير التربية من عدم وجود الكتابة العربية على طاولات المدعوين، وكتابة أسماء المشاريع باللغة الإنكليزية بدلاً من العربية، مع أن الحفلة تتحدث عن أهمية تطوير المناهج، والتوازن بين القيم والخصوصية، إضافة إلى متطلبات الارتقاء الحضاري والتعايش الكوني...
إن أعلى درجات المسؤولية أن يستحضر وزير التربية الهوية في مناسبات مثل هذه تتعلق بالإستراتيجية، علماً أن الموقف الأول كان قبل توليه مقاليد وزارة التربية وكان حينها أميراً لمنطقة مكة المكرمة، وليس هذا الاستشراف بدعاً على الأمير خالد بل إن كل الشرفاء في كل الأمم يشعرون بأهمية ذلك الدرس الأخلاقي للأجيال حينما يعتزون بهويتهم وبخاصة في ظل العولمة التي خلطت الحابل بالنابل وأصبح مقياس التمدن هو الزهد باللغة والهوية والسيادة، ولا أدل على ذلك مما رآه بعض المراقبين حينما أجاب وزير خارجية ألمانيا عن سؤال توجه به صحفي بريطاني طالباً الإجابة باللغة الإنجليزية فقال لسائله إنه لن يتحدث بغير الألمانية، لأنه ألماني ويتحدث أمام مؤتمر صحفي في ألمانيا، علماً أن الألمان في نظريتهم للجنسية أنها تقوم على العرقية بخلاف الفرنسيين الذين يرون أنها تقوم على الثقافة واللغة، وهذا الشعور القومي بالهوية يجبرنا على احترام لغتنا وتراثنا الذي يصفه بعضهم جهلاً واستخفافاً بالألوان الصفراء والتخلف المستدام، ويكفي الهوية العربية اعتراف المستشرقين الألمان بعبقريتها الخالدة، وقد كتبوا عن شعرائها ومفكريها بل إنهم درسوا القرآن والسنة وتراث العرب وفتنوا به حتى صنفوا ما لا يخطر على قلب بشر وما يعجز عنه عقل الإنسان وكان للأعلام المستشرقين الألمان - وعلى رأسهم بروكلمان - الذين عملوا في مجال المخطوطات العربية الإسلامية جهوداً في خدمة التراث العربي الإسلامي المخطوط، وكان لهم أيضاً مناهجهم في تحقيق المخطوطات. لم يقتصر دَور المستشرقين الألمان على حفظ هذه المخطوطات فحسب، بل عمدوا إلى تحقيقها تحقيقًا علميًّا ذا فهارس متعددة، واستوجب تحقيقهم وضعَ مؤلفات تعد عُمُدًا في موضوعاتها؛ كالمعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، الذي وضعه المستشرق الألماني فلوجل 1802 - 1870م، والمعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، ومعجم شواهد العربية، وناشر كشف الظنون لحاجي خليفة، وكتاب الفهرست لابن النديم، وواضع فهرست المخطوطات العربية الموجودة في فيينا، وهي بحق مؤلفات رائدة يعتمد عليها المحققون العرب، وقد حقَّق المستشرقون الألمان عددًا كبيرًا من أمهات التراث العربي؛ مثل: الكامل للمبرد، وتاريخ الطبري الذي استمرَّ تسعة عشر عامًا من العمل المتواصل، ومؤلفات البيروني، وبدائع الزهور لابن إياس، وطبقات المعتزلة لابن المرتضى، ومقالات الإسلاميين لأبي الحسن اأشعري، والفهرست لابن النديم، ومؤلفات ابن جني، وعددًا كبيرًا من دواوين الشعراء القدامى، وقد عكف «إيفالد فاجنر» على ديوان أبي فراس نحو عشرين عامًا حتى أكمله تحقيقًا. وهذه الجهود الألمانية أنموذج، وغيرها كثير...
إن هذا الشجن يجبرنا على الاعتزاز بلغتنا ذات الرسالة الكونية كما وصفها كاتب فرنسي ويدعونا إلى المراجعة من أجل رشد قومي تمت مصادرته بطرق ممنهجة، ويؤكد ذلك أن ديجول نفسه حينما عثر على مصطلح ألماني في ثنايا اللغة الفرنسية صرخ في حكومته إلى أن فرنسا لم تحرر بعد وظل علماؤه يبحثون عن ترجمة فرنسية لهذا المصطلح الدخيل من أجل تحرير فرنسا الحقيقي، بل إن الرئيس الفرنسي شيراك الذي درس في الولايات المتحدة، وهو يجيد اللغة الإنجليزية، ولكنه توقف عن استخدام هذه اللغة منذ انتهاء دراسته وعودته إلى فرنسا وأعطى درساً وطنياً في أحد اجتماعات القمة الأوروبية، حينما ألقى رجل الأعمال الفرنسي ايرنست انطوان سيلييه كلمة باسم رجال الأعمال الأوروبيين، باللغة الإنجليزية، لغة شكسبير، فقاطعه قائلاً: (لماذا لا تلق كلمتك بلغتك الأم)؟ فرد إيرنست (سألقي الكلمة باللغة الإنجليزية، لأنها لغة البزنس)، وغضب شيراك وغادر القاعة مع وزير ماليته تيري بريتون ووزير خارجيته فيليب دوست بلازي. وعندما سأله الصحافيون عن سبب الغضب والانسحاب قال: (لقد صدمت لرؤية فرنسي يعبر عن نفسه بغير اللغة الفرنسية، وانسحبت لكيلا أستمع إلى كلمة شخص لا يحترم لغته)...
وأخيراً.. لا يعني الاهتمام بالهوية والاعتزاز بالعربية عدم اتقان اللغات الأخرى وعدم الاستفادة من تجارب الأمم الرائدة، ولكن ما أجمل أن نجمع الحسنيين الهوية والثقافة وأن نتوازن في ذلك الجمع وألا يطغى أحدهما على الآخر ..والله من وراء القصد.