قال فضيلة الشيخ الكبيسي، في تسجيل فيديو يُتداول على نطاق واسع في شبكات التواصل الاجتماعي، ردا على سؤال حول تفجير المراقد الدينية في مدينة الموصل الخاضعة لسيطرة تنظيم «داعش»: «فليسمعني هذا الكلب ابن الكلب.. أبو بكر البغدادي.. قاتل الحسين أشرف منه،
هذا عميل يهود وليس أكثر.. والله داعش وماعش وحتى محمد بن عبد الوهاب أبو الوهابية صنيعة يهودية مائة في المائة، ودعهم يقتلونني إذا أرادوا».
فكرت ملياً في كلام فضيلة الشيخ أحمد الكبيسي، وتمنيت والله أن كلامه الخاص بالشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يصدر عنه وأنه فكّر فيه قبل إطلاقه، خاصة أن الشيخ أحمد الكبيسي يفسر القرآن الكريم ويتحدث عن مقاصد الإسلام، وله من الاجتهادات ما يثلج الصدر ويتفق مع المصالح المرسلة، ولست بصدد مناقشة مصطلح ما يسمى الوهابية الذي ابتدعه المخالفون للإمام محمد، ولا بعرض الأدلة التي اعتمد عليها الإمام في تصحيح العقيدة وضبط مسار المسلمين في توحيد الله جل وعلا ، ولكن السؤال: هبك يا فضيلة الشيخ أحمد الكبيسي معترضا على دعوة الإمام وتسميتها بالإصلاحية من قبل الناس، فما علاقة الإمام محمد بن عبد الوهاب بداعش، وكل من هم على طريقة الشيخ يجرمونها ويجرمون أفعالها ويبرأون إلى الله من فعلهم وظلمهم وجهلهم وصدهم عن الإسلام، وكل من أيّد داعش من السعوديين فهم ممن تأثر بدعوات أخرى تختلف جملة وتفصيلا مع الدعوة الإصلاحية كحزب الإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة وحزب التحرير، وعبثت بهم دوائر الاستخبارات العالمية، ويكفي دليلا على أنهم يختلفون هو خروجهم على ولي الأمر، وطاعة ولي الأمر في غير معصية كما تعلم يا فضيلة الشيخ تعد أساسا من أسس الدعوة الإصلاحية التي أيدها علماء معاصرون للشيخ كالقنوجي في الهند والشوكاني في اليمن وغيرهم، ومن حقك أن تعترض على ما جاء به من مسائل وأن ترى ما ذهب إليه مرجوحا ومن ثم يأتي علماء الأمة ويقيمون اعتراضك على الأدلة الصريحة، والنصوص الصراح، لكن اتهامك لهذا المجدد الذي عرف فضله معاصروه ومن بعدهم بأنه صنيعة يهودية فغير مقبول وغير موضوعي تماما ولا يليق بكريم مثلك.
والكارثة حينما يرى شباب الأمة علماءهم وهم لا ينزهون ألسنتهم عن ألفاظ سوقية كالكلب ابن الكلب سينعكس على تعاملهم مع الناس ومع مخالفيهم، فلن يوقروا عالما ولن يؤمنوا بشرعية مصلح، ولن تتفاهم معهم أي قوة على ظهر الأرض، ولو أن علماء الأمة تراشقوا بمثل هذه الأساليب فسيحرمهم الله - جلَّ وعلا - القبول والصدق والنجاح، قال ابن قدامة في المغني: «وجعل في سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام، مهد بهم قواعد الإسلام، وأوضح بهم مشكلات الأحكام، اتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة». وقال ابن العربي في أحكام القرآن: «والذي يسقط لعدم بيان الله سبحانه فيه وسكوته عنه هو باب التكليف، فإنه بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - تختلف العلماء فيه، فيحرم عالم ويحل آخر، ويوجب مجتهد، ويسقط آخر، واختلاف العلماء رحمة للخلق، وفسحة في الحق، وطريق مهيع إلى الرفق. «علما أن الإمام محمد بن عبد الوهاب جاء بما تجمع عليه المذاهب الأربعة، وخلص الإسلام من الغنوص الذي أفسد الشرائع والطوائف حينما جعل للمخلوق شيئا من صفات الخالق، جعل البشر يرتبطون ببشر مثلهم وحجر لا ينفع ولا يضر وكل ذلك من دون الله، وهذا الذي أتى به المجدد المصلح - رحمه الله -، وإن كانت هناك بعض الأخطاء فخيره أكثر واجتهاداته أصوب وغالب علمه أنفع للدين والملة، ولم يكن مبتدعا وإنما سار على نهج من سبقوه، وإن تجاوز أتباعه وتلاميذه وغلوا في كثير من المسائل فهو المبرأ الموفور وتلاميذه يبقون في منزلة المجتهدين، وكان لهم الرحم التي ولدوا فيها والواقع الذي عاشوا فيه، ومن باب الإنصاف معهم أن لا نحاكمهم بأدوات هذا العصر بعد أن تطور الناس فيه فكريا وصاروا يعدون عبادة القبور والمراقد من باب السذاجة، وما كان أولوية في ذلك العصر فقد يكون غير أولوية في هذا العصر ومثلك يعلم يا شيخ أحمد، وكثير من المسائل والحديث الذي قيل في مرحلته ونراه عظيما ربما لو كان غيرهم في مكانهم لقال مثل قولهم وربما أشد.
إن العلماء الربانيين - الذين نرجو الله أن تكون منهم يا شيخ أحمد - يتعلم الناس منهم الأدب في أساليبهم ونقدهم واعتراضهم دونما تعصب، ولا يليق بهم ورب الكعبة البذاءة والتهجم على مخالفيهم بكلام بذيء وأسلوب مستفز لا يليق بحاملي القرآن، ورضي الله عن الإمام الشافعي إذ يقول: والله ما أبالي أن يظهر الحق على لساني أو على لسان غيري.
بل رأينا الإمام الشافعي رضي الله عنه يغير رأيه لتغير الحال كما هو معروف عنه في القديم الذي كان في العراق والجديد بأرض مصر، وعلى ذلك فعلى من يتكلم في عالم مخالف أن يحسن الظن بأخيه الميت والحي وأن يترحم عليه ويرجو له المغفرة إن كان يراه مخطئا، ولا يطعن فيه ولا يشوهه ولا يصفه بما ينقص من علمه وقدره، ويقول كما كان يقول بعض السلف: ألتمس لأخي من عذر إلى سبعين، ثم أقول لعل له عذرا آخر لا أعرفه.
وعليه يجب أن يتأدب الأخ مع أخيه الميت بآداب التعامل مع المخالفين له من التحرر ومن التعصب للرأي، وأن ينظر إلى القول لا قائله وأن تكون لديه الشجاعة لنقد الذات والاعتراف بالخطأ والترحيب بالنقد من الآخرين وطلب النصح والتقويم منهم، والاستفادة مما عند الآخرين من علم وحكمه والثناء على المخالف فيما أحسن فيه والدفاع عنه إذا اتهم بالباطل.
ويكفي أن نعرف أن ابن مسعود وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - أوصل ابن القيم المسائل التي اختلفا فيها إلى مائة مسألة، ومع ذلك لم نجد نصا في تراثنا يتطاول أحدهما فيه على الآخر ويسفه بعضهما بعضا، قال القرطبي في الجامع: «كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة أهل المدينة من المالكية، وإن كانوا لا يقرأون البسملة لا سراً ولا جهراً، وصلى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ فصلى خلفه أبو يوسف ولم يعد».. ويتحدث الذهبي في سير الإعلام عن ابن خزيمة وتأوله حديث الصورة فيقول: «فليُعذر من تأول بعض الصفات، وأما السلف فما خاضوا في التأويل بل آمنوا وكفوا وفوضوا علم ذلك إلى الله ورسوله، ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق أهدرناه وبدعناه لقل من يسلم من الأئمة معنا».
ويقول أيضاً في ترجمة قتادة:»وكان يرى القدر نسأل الله العفو ومع هذا فما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه، ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده ولا يسأل عما يفعل، ثم إن الكبيرمن أئمة العلم إذا كثر صوابه وعلم تحريه للحق واتسع علمه وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له زلـله ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك»، ويقول شيخ الإسلام: «كانوا يتناظرون في المسائل العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة».
أما دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فهي مستمدة من سلف الأمة كأحمد بن حنبل وابن تيمية، وأكاد أقسم بالله أن كل ما بيّنه للناس في عصره قد قاله من هم قبله من العلماء، فهل كانوا هؤلاء صنيعة يهودية أيضا، ولو تمت مراجعة المسائل التي ذكرها - رحمه الله - لوجدناها مما تكلم به السلف واستدلوا عليها وهي مبثوثة في كتبهم وتراثهم، ولم يأت بدليل مصنوع ولا حديث مكذوب ولانص مضطرب، الذي لم يفهمه الناس أن دعوته - رحمه الله -كانت عقدية تماما وليس له علاقة بالتشدد والتأزيم والتحريم في مسائل الفقه والمعاملات والمستجدات والحوادث. قال الأمير سلمان بن عبد العزيز في رسالته للمستقلة في 2008م «والسؤال هنا: هل يستطيع أحد أن يجد في تراث الشيخ محمد بن عبد الوهاب أي شيء ليس مستمدا من كتاب الله وسنة نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، لكي يصدق مثل هذه التهم والدعايات؟».
وأخيرا اطمئن يا فضيلة الشيخ أحمد فلن يقتلك أحد، لأن فضيلتك مهما قسوت علينا فأنت الأخ الأغلى والأحب.. والله من وراء القصد.