* أعود اليوم من حيث بدأتُ الحديثَ عن لندن الأسبوع الماضي، فأقول إنني عدت إليها سائحاً بعد طول غياب، فوجدتُها مذهلةً اتساعاً وسكاناً وحراكاً صاخباً على مدى (خمس وعشرين) ساعة في اليوم والليلة! لم تعد لندن كما عرفتها قبل أكثر من ثلث قرن، يوم كان (إنسانها) أدقَّ التزاماً بأدبيات الحياة و(بروتوكولاتها) وقيمها، قيافةً وحديثاً وتعاملاً! (رُحّل) جزءٌ من هذه القيم إلى الماضي، لتزدانَ بها الذاكرة التراثية والتاريخية لهذه المدينة!
***
* نعم .. اكتشفتُ عبر زيارتي القصيرة للندن هذا الصيف كم هي (مذهلة) حقاً في العديد من مظاهر الحياة، أمّا ماضيها وعراقتها وهيبة أرثها التاريخي والسياسي فتمثله مشاهدٌ تتحدّى الزمن، جمالاً وعراقة وصموداً، كقصر بكنجهام ومبنى البرلمان وبرج لندن وساعة (بق بن) و(الرئة) النباتية الخضراء العملاقة (هايدبارك) وغير ذلك كثير من شواهد الماضي المنيف!
***
* عدت إلى لندن فإذا هي قد تحولت إلى (بانوراما) عولمية من البشر ينتمون إلى معظم أصقاع الدنيا، أجناساً وألسنةً وألواناً، وتتوارى خلف أفقها الأسطوري العجيب صور المدينةُ الغارقةٌ في حلم ارستقراطية الماضي وفروسيته وتقاليده، غَزْْتْهم (عولمةُ) الطعام ممثلاً في الـ(بيق ماك) الأمريكي، والـ(بيتزا) الإيطالية و(المشاوي) الشرق الأوسطية و(السوشي) الصينية وغير ذلك، وتزامن ذلك كله مع غزو عولمي في ثقافة اللبس تسللت إليهم من بين أيديهم ومن تحت وأرجلهم، وتضاءلت مساحات من الأجساد الناعمة التي كانت تخضع لطقوس الحشمة التقليدية، تحكمت سطوة (الموضة) على كثير مما تقع عليه العين من تلك الأجساد!
***
* كمْ أتمنَّى أن أستطردَ عبر هذا الحديث فأنثر من خلاله انطباعات إضافية عن هذه العاصمة الكبرى التي لم تكن الشمس تغرب عن أراضي مستعمراتها في عهود سابقة، ورغم ذلك تظل (عظمى) بتاريخها، ونهضتها الصناعية والتجارية، وإرثها الثقافي المقروء منه والمشاهد، وقبل هذا وبعده، (بقلاعها) الأكاديمية المبدعة، ممثلة في أكسفورد وكمبردج وكلية لندن الشهيرة للدراسات الاقتصادية، وغيرها.
***
وبعد ..،
* فيتعذّر الإمساكُ عن هذا الحديث دون التوقف لحظات أمام (المشهد العربي) الموسمي في لندن، ممثلاً في كثافة الزوار، ذكوراً وإناثاً، يتوافدون إليها من الشرق الأوسط، ومن خليجنا العربي خاصة، من كل الألوان والأعمار، منهم الـمُوسرون، وأكثرهم من (مستوري الحال) الذين استقطبهم اعتدال مناخ لندن الغائم حيناً، والممطر حيناً، والباسم بشمسه الدافئة أحياناً!
***
* الموسرون منهم، وخاصة عرب الخليج العربي، يجتهد بعضهم بغلوّ في استقطاب الأنظار إليهم عبر بعض مظاهر الترف، وفي مقدمتها الاستعراض شبه اليومي للسيارات الفارهة جداً والباذخة سعراً وتصميماً، تخرج من (أوكارها) عصر كل يوم حتى ساعات من الليل، تجوب الشوارع كريح صرصر عاتية وينتشي بعض ملاكها بمشهد الشباب الإنجليزي وسواهم، وهم يشكلون دوائر (استطلاع) حول تلك السيارات ويلتقطون بجوارها (الصور التذكارية)، وكأنها قدمت من كوكب خارجي!
***
* وحين أشاهد موقفاً كهذا، يأخذ مني العجبُ، لا الإعجابُ، كلَّ مأخذ، ويضج فـي خاطري سؤال ذو شقين:
1) تُرى ماذا يدور في أذهان هؤلاء الشباب الإنجليز وغيرهم وهم يتأملون هذه (المخلوقات) الآلية العجيبة، ومن أين لمالكيها (الوسيلة) لاقتنائها والتظاهر بها تفاخراً في شوارع مدن مثل لندن وباريس ومونت كارلو وسواها!
***
2) وفي المقابل أتساءلُ عمّا يجوس في خواطر مالكي هذه الأجهزة (العابرة للقارات)، التي أكاد أجزم أن أحدَهم لم يشْقَ (إنتاجاً) لها ولا اقتناء! وما هي (الرسالة) التي يوجهونها إلى شباب المدن التي يحلّون بها، ثم، وهو الأهم، أليسوا بذلك يستنفرون الأنفس ويستعدون الخواطر ضد بلدانهم، وهم يقدّمُون هذا (الشّو أوُفْ) المبهر للأبصار وبلا سبب يتصالح معه العقل والفؤاد معاً؟!
* أعترف هنا أن مثلَ هؤلاء قلةٌ قليلة إحصائيا، لكنهم يحدثون من الأثر والتأثير في أفئدة مشاهدي (مركباتهم) الغريبة ما الله به عليم!