كم هائل من المحن والكوارث والهزائم المتنوعة ألمت بالعرب، بشكل لا مثيل له من قبل، حتى أنهم أصبحوا فريسة سهلة لكل قوارض المجتمعات والأمم. اللافت للانتباه أن كل هذه المصائب العظيمة لا تتحول عند العرب إلى دروس وعبر، كما حصل مع بقية الأمم والمجتمعات الأخرى،
بل تتحول إلى هوايات عالية المستوى في إعادة النكوص والتقهقر، والدوران في حلقات الفشل المفزعة، والهزائم المتتالية، والخسارات الكبيرة. إن المتتبع للمشهد العربي يمكن أن يتلمس هذه الملامح البشعة، والعناوين المدججة بترسانة الإجهاض. لم يعد للعرب إمكانية نفض الغبار، وكيفية عبور الموانع والمطبات، ولم يعد لديهم قدرة الإمساك بزمام المبادرة، ومهارة إزالة الألغام، والعبور إلى بر الأمان، والنهوض إلى فضاءات البياض، الحمامات العربية البيضاء التي تدشن الفضاء، وتعود بالتصفيق. لم تعد قادرة على فعل ذلك. وغصن الزيتون، وطوق الياسمين، لم يعودا يشكلان لوحة سلام عادلة. أصبح الظل العربي ظلاً طويلاً، يحجب الرؤية عن أية منافذ للنجاح. ثمة صراعات خفية وعلنية تمسك بالأغلال لربط العرب من أجل إبطاء أو إيقاف حركة التصالح والتفاهم ومد الجسور والتعاون المشترك، حتى أنهم أصبحوا أسرى لهذه الصراعات العبثية التخريبية، وغارقين في وحل الخراب والقتل والدمار.
الجسم العربي أصبح مريضاً، ورأسه لم تعد حربة، وأقدامه لا تساعده على الركض والقفز، وقطاره توقف عند أول محطة. الحناجر العربية مولعة بالغناء، وتهوى الأهازيج، والأقدام العربية تجيد بتفوق الدبكات، والأجساد تترنح عند كل موال جبلي حزين، والرؤوس تطرب وتنتشي عند كل لحن جميل، حتى الشوارب العربية أصبحت استعراضية بحتة؛ لهذا تحول حثالة الأقوام، والملل الوافدة، والبراعص الجديدة، إلى فرسان ومحاربين وأبطال، نتيجة الذل والهوان وحقبة العار العربي الطويل. يعجز اللسان عن وصف الحال التي آل إليها العرب، بفعل سلسلة الانكسارات الفظيعة، والإخفاقات المتعددة الكثيرة. إن العار والتردي والهوان التي لحقت بالعرب أغرت كل الشياطين والخنافس والقمل والبعوض وعصابات الذبح للقدوم إلى أرضهم، لممارسة صناعة الموت، وتأليف مسرحيات الدم والخراب والخطاب المزيف.
لقد أصبحت الأرض العربية ملاذاً للمجرمين واللصوص وقطاع الطرق، وموانئ مفتوحة لشحنات صناديق البنادق والرصاص والعبوات الناسفة، وساحات للأعمال اللئيمة، والأفعال القاصرة المنافية لكل القيم الدينية، والمبادئ الأخلاقية والإنسانية.
إن مشاهد الذل والعار المتورمة على تضاريسنا العربية المستباحة لا يمكن مواجهتها ووضع حد نهائي لها من دون انبثاق روح عربية أخرى فعالة وجديدة، متحررة من أشكال الحقد والبغض والكراهية. هذه الروح تحتاج لإرادة شجاعة لمد الجسور المتينة بين سكان هذا الوطن العربي المنكوب بعيداً عن المعايير السياسية الرمادية المعلنة منها والمستترة. إن حالة التشرذم التي انحدر إليها العرب تجاوزت كل حالات التصديق، وخيالات التفكير، وعمق التحليل. إن ما حل بالعرب وما سيحل من هزائم حضارية وسياسية وعسكرية واقتصادية هي أول الغيث الذي ينتظرهم من فرسان الكرتون والخشب والمطاط الذين توافدوا على أرضهم من كل فج عميق، واعتلوا المنصات والمنابر، وأصبحوا ناصحين وخبراء، وتحولوا إلى مرجعيات وحكماء وموجهين، نتيجة العقول العربية البليدة، والأحقاد الدفينة، والعجز الشامل، والصمت المريب، والسكوت المعيب، والتفرج العار على ما يجري الآن وما يمكن أن ينتج.
إن على العقلاء والحكماء والراشدين الحقيقيين في محيط العالم العربي كله ألا يصمتوا في هذه المرحلة العربية الخطيرة حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الأسود، بل عليهم وجوب المسارعة نحو المصارحة والمكاشفة وتبيان الحقيقة بوضوح تام لا لبس فيه ولا شُبه، بعيداً عن التصريح المخجل، والتلميح البائس، وغض الطرف الكريه. إن الرجال العظام وحدهم من يصنع الأحداث الضخمة، والتغيرات الكبيرة، حتى تبقى ذكراهم خالدة إلى الأبد، نتيجة أفعالهم العظيمة، ومواقفهم البطولية، وشهامتهم الإنسانية. إن الواقع العربي مكتنز بمكونات خطيرة، وأحداث جليلة، فهل يعي ويدرك الصامتون مضمون ودلالات ذلك؟ أم يستمرون في غيهم الذي لا نفع فيه، ولن يجلب لهم سوى الحسرة والأسى والندامة.