الطقس على طول الطريق من الرياض إلى الشملي يميل إلى الحرارة الحادة، قدت سيارتي لم أفكر حينها بشيء معين، كنت سارحا، كمن في داخله بعد آخر، لا يجيد إلا النبش في أراضي الماضي، شمسه وسفحه، حره وقره، غيومه
الواعدة غدير الماء العشب والكلأ وقطيع الماشية، في الطريق إلى الشملي مررت بعدة قرى وهجر، عند كل هجرة أو قرية أوقف سيارتي وأترجل، أنشعل بمرأى التغيير والتبدل، ها هي (الشملي) إذن لا تفصلني عنها سوى بضع كيلومترات محدودة، لقد تراءت لي هذه المدينة بعد طول فراق زاهية مثل حسناء بجديلة طويلة وبها حناء، كانت أرض قفراء صحراوية قاحلة، لا عمارة فيها، ولا أنيس بها، ولا حياة، إلا بعض العابرين من الرحل البدو، الذين يعيشون واقعاً يمتزج فيه الألم بالأمل في غد مزهر، حتى لو حاول الرمل والريح طمسها، أن هؤلاء اللاهثين وراء ماء الحياة يزدادون تشبثاً بحبات الرمل وسمفونية الريح، عشقاً بغسق الصبح، وهياماً بشفق المساء، وذاكرة الأجداد القابعين في ضوء الحب والنخوة، الصحراء عند هؤلاء قصة عشق قديم تدرجت تباريحها رغم زحف المدن، وتعقد دواليب الحياة، لكن أبناءهم الآن يفكرون في أدوارهم الجديدة، مسلحين بمكابدات معرفية ومهنية ومهارات، متنقلين من مدينة ألى أخرى، حتى وصلوا للعالم الغربي، عائدين بالعلم ومجندين بالمعرفة، هذا ما بدا لي حين زرت الشملي، وجلست مع ناسها على مختلف مشاربهم، لقد تحولت هذه المدينة في مثل لمح البصر إلى مدينة كبيرة، نمت وازدهرت بسرعة قد تبدو لمثل حالها ومناخها وتضاريسها هائلة، لقد نشأت هذه المدينة وترعرعت تحت ظروف خاصة، حتى غدت من أكبر محافظات حائل مساحة وسكاناً، الوقت الآن ضحى، والمدينة هادئة، والناس غالبيتهم نيام، تنفست بعمق شديد، جائتني عندها الذكريات كالظلال المتساقط، وكالمرايا العاكسة، حاولت الاهتداء إلى إيقاعها، وأن أمسك نفسي المنشطرة بين الماضي والحاضر، عندما تأخذك الذكريات إلى المدى البعيد، كأنك تحتاج إلى ميزان لتزن روحك بين اليقظة والنوم، وبين الصحو والسهو، هي الحياة علمتني وجوب مطارحة الأشياء فحصها والتمعن بها، أول ما مررت به في تلك المدينة العابقة، بـ (بئر الرفدي) الذي يعتبر من أبرز معالم المدينة، حيث يمتاز بالمياة الكبريتية التي تعالج الأمراض الجلدية والحساسية، لكنه الآن يحتاج إلى مجهود كبير، للنهوض به حتى يصبح مقصداً حقيقياً للزائرين والسواح، عرجت بعد ذلك على (محجة) وهي منطقة جبال نحتتها الرياح بشكل جميل وبهي ويوجد بها نقوش ثمودية، ومر بها مستشرقون عدة أمثال الفرنسي (هوبر)، مثلها مثل (الحنية) التي تمتاز هي الآخرى بنقوش ورموز قديمة، وهذين الموقعين الأثرين الهامين يحتاجانلاهتمام أكبر واعتناء أفضل من هيئة التراث والسياحة، في المساء ذهبت إلى عمق الصحراء حيث الطقس يميل إلى البرودة، فجأة أحسست بلفحة هواء منعشة تسري في جسدي، تأملت كل شيء، أعدت ترتيب الصور بالتأملات التي تشطح في رأسي، وتمر أمام عيني، لتستوي عندي الحكاية مثل الورد الذي يغالب قساوة التربة وندرة الماء، مرت الكثير من الأحداث والصور، وكيف كان الخوف والشتات والتوجس والهاجس، صور جاءتني على شكل ومضات سريعة، لكن بإيحاءات وأشكال متنوعة، كنت اصطاد الصور من لوحة الماضي كدرويش حالم، (الشملي) اليوم مايزت نفسها، أخذت من الخضاب شيئا، ومن العطر شيئا، ومن ألوان قوس قزح شيئا آخر، حتى قراها وهجرها التابعات لها يحاولن أن يكن مثل صبايا مترفات حسان، لكن (الشملي) وهجرها وقراها تحتاج فوق ذلك لمحفزات كثيرة، وعمل دؤوب، وهمم عالية، وورش عمل كثرة، وتهيئة الفرص لرؤوس الأموال الكبيرة، حتى تصبح أكثر عذوبة وبهاء ورقة عما هي عليه الآن، أهلها وشبابها يأملون أن تكون الشملي مثل لوحة جميلة وتحفة ثمينة وبلورة نادرة، يريدون أن يكسوا ملامحها ملامح جديدة، وجمال جديد، وحسن جديد، وأن تصبح مركزاً للعمل والإبداع والإنتاج، مشهد شباب الشملي باهر بكل تنوعاته العمرية، لهم أعمال ثرية، وينهمر من إنتاجهم الجمال، ووجوههم طافحة بالبشر، لهم خفاقات، لكنها في محيط ضيق، هم الإضاءات والرهان والمستقبل والمنجز القادم، لهم لمعان، ولغة، وملامح ناظرة، ومخيلة عالية، وكمن أعطي فرصة ثمينة رحت أمشي طويلاً في فضاء الشملي هضابه وشعابه أوديته وتلاله، كنت لوحدي (أهيجن) للحاضر البهي وفق احتفالية خاصة، عندها مرت بي سحابة طويلة، قبل أن ألملم أغراضي القليلة، كي أحث الخطى مغادراً هذه المدينة النجلاء وقلبي لا يزال معلقاَ بها وبناسها، الشملي مدينة واعدة حلم أهلها أن تكون ذات يوم سيلاً من الضياء والحسن والأناقة، وأن يتحول رملها إلى كريستال ملون، وترابها إلى مروج خضراء وسندس.