أنت في منزلك بمفردك وقت الظهيرة في يوم قائظ بدرجة حرارة تجاوزت الأربعين، وتفتح الثلاجة لتودع مادة أحضرتها معك، تشاهد عبوات الماء البارد والعصير الطازج وشيئاً من الفاكهة المُحَبّبة، لكنك لا تأبه بها وتنظر إليها وكأنها لا تعنيك! كل المسألة لأنك صائم إما فرضاً أو تطوعاً، ولديك القناعة الكاملة بأنّ كل هذه المُغْريات ليست لك ولا يحق لك تجاوز حدود ما نُهيت عنه، إلى أن تباح لك شرعاً ويكون هناك ما يُسوّغها، كذلك هي الغرائز فلا يمكن أن تكون مُنفلتة دون ضوابط لدى الإنسان، ومما قرأت في هذا الباب ما معناه: (ان الغرائز تمثل أعظم الدوافع الإنسانية التي يمكن أن تشتِّت معالم الشخصية، وتبعثر توجهها في سبل شتى، ويأتي المنهج الرباني بضوابطه المعتدلة ليوجه هذه الغرائز ضمن نظام محكم، ويوظِّفها ضمن نظامه العام في سبيل عبادة الله تعالى، وعمارة الأرض ومطالب الاستخلاف فيها؛ فالغريزة الجنسية - مثلاً - تنبعث قوية في كيان الشاب البالغ لتنطلق به طرق الإشباع المختلفة، فتأتي التكاليف الشرعية وأحكام المكلفين؛ لتضبط هذه الانطلاقة العارمة وتوظفها في نظام الزواج المشروع، وترتفع بها إلى مرتبة العبادة واستحقاق الثواب)، ومعلوم أنّ الغريزة غير الفطرة؛ فهي تُعَد من الخواص الإنسانية فقط فليس للحيوان فطرة، أما الغريزة فيشترك فيها الإنسان والحيوان وهي فعل الشيء لا لسبب إلا لأنه غريزة داخلية، ولهذا قال بعض العلماء: (إنّ استدراج الفِطَر الإنسانية إلى أن تكون مَحْض غرائز يتوجب إشباعها، لهو تشبُّه بالأنعام وغياب للعقل واستغناء عن معنى الإنسان)، وعملية الضبط لا تكون دائماً سهلة ميسرة، بل الملاحظ أنها عند البعض غاية في المشقة، وتصل أحياناً إلى حالة مرضية تحتاج إلى رياضة نفسية وإرادة قوية، ولهذا كان التشريع الإسلامي مؤكداً على بدء التوجيه السليم من أولى سنوات الطفـولة لتعويد الطفل وترويضه على (ضبط) رغباته، وهناك برامج واختبارات علمية من شأنها قياس غرائز وانفعالات وذكاء الإنسان وسلوكياته، مثل ( الرائز النفسي)، فلو طبق مثل هذا الاختبار والقياس على شرائح ونماذج ممن يقترفون جرائم التحرش والابتزاز والتزوير واستغلال المركز الوظيفي؛ فسيكتشف المعنيون والمسئولون عنهم، أنهم ليسوا جديرين بالكراسي والمهن التي يشغلونها، ولاتضح للناس المخدوعين ببعض المُدّعين في مجالات كثيرة كممارسي الرقية (مثلاً)، وبعض الساعين لجمع التبرعات بدعى بناء المساجد وحفر الآبار وترميم المقابر وصيانتها، وللبذل على الأيتام والأرامل ونحو ذلك من ادعاء عمل الخير وهم في حقيقتهم سارقون مجرمون في ثياب ومظهر النساك الصالحين، ألم يأتكم خبر مدير الجمعية الخيرية في إحدى المناطق، الذي قبض عليه متلبساً بابتزاز امرأة محتاجة تقدمت طلباً للعون يساومها في عرضها، ومن يضمن أن غيرها خافت الفضيحة ولم تتقدم بالشكوى؟! ولعل البعض لم يطلع على الخبر الذي يؤكد أن هيئة (الحسبة) بإحدى المناطق قد أوقفت راقياً شرعياً ثانياً معروفاً، بعد أقل من شهر من إيقاف الراقي الأول الذي يُعد الأشهر بين الرقاة الشرعيين هناك، ومن أبشع ما نشر أنّ أحد أئمة المساجد وعمره يناهز الثمانين يتحرش بطفلة حين خروجها من المدرسة، اخضعوا هذه السلوكيات للعقل والعلم!