في كلمة مسجلة وجهها مؤخراً، للأمتين الإسلامية والعربية والمجتمع الدولي أكد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز أن المتخاذلين عن أداء مسؤولياتهم التاريخية ضد الإرهاب من أجل مصالح وقتية
أو مخططات مشبوهة سيكونون أول ضحاياه في الغد، وكأنهم بذلك لم يستفيدوا من تجربة الماضي القريب، التي لم يسلم منها أحد. وقال بالحرف «اليوم نقول لكل الذين تخاذلوا أو يتخاذلون عن أداء مسؤولياتهم التاريخية ضد الإرهاب من أجل مصالح وقتية أو مخططات مشبوهة، بأنهم سيكونون أول ضحاياه في الغد، وكأنهم بذلك لم يستفيدوا من تجربة الماضي القريب، التي لم يسلم منها أحد. اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد.. اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد.. (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)».
ودعا الملك عبدالله بن عبدالعزيز، قادة وعلماء الأمة الإسلامية إلى أداء واجبهم والوقوف في وجه «من يحاولون اختطاف الإسلام وتقديمه للعالم بأنه دين التطرف والكراهية والإرهاب»، محذراً من فتنة «وجدت لها أرضاً خصبة في عالمينا العربي والإسلامي، وسهل لها المغرضون الحاقدون على أمتنا كل أمر، حتى توهمت بأنه اشتد عودها، وقويت شوكتها، فأخذت تعيث في الأرض إرهاباً وفساداً، وأوغلت في الباطل». ولأن الإرهابيين، «شوهوا صورة الإسلام بنقائه وصفائه وإنسانيته، وألصقوا به كل أنواع الصفات السيئة بأفعالهم، وطغيانهم، وإجرامهم». وتطرق خادم الحرمين الشريفين إلى ما يجري في فلسطين. وقال: «نرى دماء أشقائنا في فلسطين تسفك في مجازر جماعية، لم تستثن أحداً، وجرائم حرب ضد الإنسانية دون وازع إنساني أو أخلاقي، حتى أصبح للإرهاب أشكال مختلفة، سواء كان من جماعات أو منظمات أو دول وهي الأخطر بإمكانياتها ونواياها ومكائدها». وأظن أن هاته الكلمة جامعة شاملة تصف الواقع كما هو وتتنبأ بمستقبل خطير للبلاد العربية إذا لم تزل في الإبان مواطن الإرهاب والفساد من جذورها خاصة وأن تطور الإرهابيين الجدد من داعش وغيره من الفيروسات الفتاكة مصحوب بصمت دولي غريب.
إن الرؤية المرجعية كما سبق وإن كتبنا في صحيفة الجريدة السعودية هي أن الاختلاف موجود وقائم، وهذه سنة الله في خلقه «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين»، ويشير الإمام الطبري في تبيانه لطبيعة الاختلاف أن من المفسرين من ذهب إلى أنه اختلاف في الأديان ومنهم من ذهب إلى أن الاختلاف هو سبب خلقهم ليكون فريق منهم من أهل الجنة والآخر منهم من أهل النار، ومنهم من فسر «ولذلك خلقهم» أي خلقهم للرحمة، ورجح الإمام الطبري أحد هذه الأقوال: «وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: وللاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم، لأن الله -جل ذكره- ذكر صنفين من خلقه: أحدهما أهل اختلاف وباطل والآخر أهل حق، ثم عقب ذلك بقوله: «ولذلك خلقهم»، فعم بقوله: «ولذلك خلقهم»، صفة الصنفين، فأخبر عن كل فريق منهما أنه ميسر لما خلق له». فمن أسباب خلق الخلق اختلافهم، ولا يمكن الاستشهاد بهذه الرؤية المرجعية القرآنية الكبرى وعدم الاتفاق حول الجوامع المشتركة، فهما عاملان لمعادلة توازنية واحدة، إذ كيف يمكن الإيمان بحقيقة الاختلاف الإنساني دون التفاهم حول الجوامع المشتركة، فالاختلاف قدر محتوم، والهدف من ذلك هو التعارف والتآلف «إنا خلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا» وإيمان الفرد ودينه يرجع قبولهما ورفضهما كما ثوابهما إلى الله سبحانه وتعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}، فلغة الإكراه غير موجودة في القرآن {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}، فهذه هي طبيعة المقاربة القرآنية السلمية بل والمصيرية لظاهرة الاختلاف بين البشر لأن نقيض ذلك سيؤدي إلى النزاع والصراع، وسيميت «ثقافة الحوار» التي تستوعب التعددية الفكرية والاعتقادية وتسلم بضرورة التعايش بين الأديان والانفتاح على ثمار الحضارات الإنسانية المتعددة.
ولكن من المغالطات الشديدة التي تعصف بالفكر الغربي عمداً أو تناسياً، رد الأعمال الإرهابية، التي يقوم بها بعض شباب المسلمين إلى طبيعة الدين الإسلامي، وربط بعض الفترات الاستثنائية التي مر بها المسلمون إلى نوع الحضارة العربية الإسلامية، وهو ما يفهم من كلمة خادم الحرمين الشريفين؛ فالتعاليم والتاريخ شيئان مختلفان، والتعاليم الدينية هي التي تحاكم أفعال الناس التي يقومون بها باسم الدين وليس العكس، فالآية الكريمة {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}، هي التي تحاكم ذلك الإرهابي الذي يفجر نفسه وسط الناس الأبرياء سواء كانوا مسلمين أو لا، والآية صريحة لا غبار عليها، ثم إن ذلك الإنسان إذا لم يخضع لسلطان هذه الآية فإن القران يحدد عقوبته: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
فلا يتصور انطلاقاً من الرؤى المرجعية الإسلامية أن يتصارع الدين الإسلامي مع الدين النصراني أو الدين المسيحي أو أن تتصارع الثقافة الإسلامية مع الثقافة الأمريكية أو الفرنسية أو الصينية، بل يمكنها أن تتعايش على أساس التعارف والاعتراف المتبادل بالمصالح المختلفة والاهتمامات المتعددة والانفصال القيمي والمفهومي، ثم إن الانزلاق الكبير والمتعمد هو تحميل عبء الأوضاع المزرية التي تعرفها مناطق متعددة إلى الخصوصيات الحضارية، أو الثقافية أو الخصوصيات الدينية أو إلى هذه الخصوصيات مجتمعة كما يروج لذلك الساسة الإسرائيليون في تبرير سياستهم التنكيلية بالشعب الفلسطيني.. ففلسطين يا عالم محتلة من الكيان الصهيوني الذي يستعمل نفوذه الإعلامي الأمريكي بل والغربي بأكمله ليضع نفسه وكأنه الضحية والمعتدى عليه والمغلوب على أمره ليبدأ في إبادة جماعية وجرائم حرب ضد الإنسانية.. وهاته الجرائم وقعت في أمصار عديدة كما هو الشأن في يوغسلافيا السابقة ضد المسلمين وفي إفريقيا بين الهوتو والهيرسك فأنشأت المحاكم الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب من طرف الأمم المتحدة إلا في فلسطين المحتلة فإن مجرمي الحرب الإسرائليين الذين قتلوا الأطفال والنساء وخربوا المدارس الممتلئة عن بكرة أبيهم، لا يحاسبون ولا يحاكمون، فوالله لو وقع ذلك في مواطن أخرى لقامت الدنيا ولم تقعد ولله الأمر من قبل ومن بعد..
كما أن الدين الإسلامي ليس هو المسؤول عن المجاعة في الدول الإفريقية المسلمة ولا الدين النصراني هو المسؤول عن الفقر في الدول الإفريقية النصرانية، وليست الديانات هي المسؤولة عن قوارب الموت التي يمتطيها المهاجرون السريون من إفريقيا للوصول إلى القارة الأوروبية وليس الدين الإسلامي هو المسؤول عن احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية. فهاته المشاكل سياسية وتبقى سياسية بالدرجة الأولى.. كما أن تنامي الإرهاب العابر للقارات له جذور سياسية فما وقع في مالي وما يقع اليوم مع تنظيمات إرهابية كداعش التي خرجت من تحت التراب في رمشة عين هي في الكثير من الأحيان جزء من مخطط واحد.. والعقلاء في المنطقة يفهمون أبعاده.