عدت لتوي من إجازة عائلية في النمسا. رأيت هناك من الخليجيين أكثر مما أراه محليا ً في دول الخليج، حيث لا ترى العين سوى اثنين أو ثلاثة مواطنين بين كل سبعة أو ثمانية أجانب، بما يعبر عنه ذلك من دلالات على اتجاهات التنمية والخدمات الخليجية وإلى أين تذهب الفلوس، لكن ما علينا. هذه أمور سياسية سيادية تقررها الحكومات من فوق، ثم تتكسب من ورائها طبقة رقيقة من المواطنين «الطفو» تعوم فوق المجتمعات الخليجية. القليل المتسرب إلى الأسفل العميق تتلقفه الأغلبية التي أصبحت ديموغرافيا هي الأقلية، وفي أحسن الأحوال لا تزيد عن نصف عدد السكان. الحصص الأجنبية في ضبط وتكاليف النواحي الأمنية والأخلاقية والاستهلاكية (الماء والطاقة والصحة) أمور لا يعرف عنها المواطن الخليجي الكثير. ليس هناك احصائيات، وربما كانت الصورة غير واضحة حتى للحكومات الخليجية على أعلى المستويات. أحداث منفوحة والمربع في الرياض وإضرابات العمال في قطر ودبي وضغوط المنظمات الحقوقية الخارجية تعطي مجرد مؤشرات على العمق، لكن مسابر الأعماق الخليجية حاليا (على ما يبدو) لا تعمل بكفاءة مقنعة.
أعود إلى انطباعات الإجازة في النمسا. عدد السكان في الجمهورية النمساوية ثمانية ملايين ونصف مواطن، أي أقل من سكان المدينتين الأكبر في السعودية، الرياض وجدة، وأقل من نصف سكان القاهرة، لكن الناتج القومي النمساوي (الزراعي والصناعي والسياحي والعلمي) يقارب مثيله في الدول العربية مجتمعة، الناتج المحلي للفرد النمساوي يبلغ حوالى خمسة وأربعين ألف دولار (ويمثل القوة الشرائية للمواطن). هذا الناتج ناتج فعلي غير ريعي، بل إنتاجي حقيقي، ولا يمكن مقارنته بالناتج المحلي للفرد الخليجي، حيث يكون الناتج المحلي الإجمالي بنسبة ثمانين إلى تسعين في المئة ريعيا يعتمد على بيع الثروات النفطية والغاز لتغطية الحاجيات الاستهلاكية اليومية.
كمية المياه في النمسا كافية لتغطية حاجات مئتي مليون نسمة، بينما عدد السكان أقل من عشرة ملايين. رغم ذلك هنالك قوانين ملزمة ومحددة لاستهلاك المياه، أما تطبيق الغرامات فأسرع من لمح البصر والمسؤولية موزعة بالتساوي على كل المواطنين.
تقع كل مدينة نمساوية على ضفاف نهر أو نهرين وأحياناً ثلاثة، وكل قرية على فرع نهر أو عدة جداول مائية، والسماء تمطر ثلاثمئة يوم في العام، ولكن الناس هناك لا يستهترون بالثروة المائية، وعدادات الاستهلاك تعمل شتاء وصيفا نهارا وليلا.
أين تعثر على الخليجي في النمسا وأين تجد النمساوي ؟. الخليجيون يتكومون في الشوارع الرئيسية، حيث التسوق والمطاعم والمقاهي ذات الأسعار المرتفعة والأطعمة الأقل جودة والبضائع المصنعة في دول العالم الثالث ثم تطبع عليها علامات الماركات العالمية. هناك، مع الخليجيين، تعثر أيضا على الروس الأغنياء وعلى الكثيرين من الهاربين بالثروات من دول المعسكر الاشتراكي بعد تفكيكه ونهبه.
النمساوي وكذلك الياباني والصيني تجدهم في الشوارع الجانبية والأزقة التراثية القديمة. هناك تنتشر المطاعم والمقاهي الهادئة، تقدم أجود أنواع الأطعمة بأسعار أقل، وهناك تعثر على استديوهات الرسامين والفنانين وعلى البيوت التي سكن فيها قديماً مشاهير العلماء والموسيقيين ورموز الفكر الاقتصادي والسياسي في القرون الثلاثة الماضية، التي هي العمر الحقيقي للنهضة الأوروبية.
النمساوي في هذه الأماكن يأكل ويشرب بصمت، يقرأ جريدته ويرفع بصره من آن لآخر يتفقد الرائح والغادي، يهز رأسه ثم يعود للجريدة والكتاب والطبق.
النمساوي تجده أيضاً في الدكاكين والمكتبات والصيدليات، كما تجده أيضا في الشوارع والحدائق يغسل وينظف ويقلم الأشجار ويقدم الوجبات للزبائن، بصمت وأدب يفتقدهما السائح في لندن وباريس ونيويورك والعواصم الآسيوية.
الصينيون واليابانيون يأكلون أيضاً في مطاعم ومقاهي الشوارع الجانبية، ثم ينتشرون بآلات التصوير في كل مراكز التسوق، يصورون نوافذ العرض والبضائع المعروضة، من كل الزوايا والأركان. واضح أنهم مكلفون، بالإضافة إلى السياحة بتوثيق مظاهر التطور والتقدم والاختلاف وإحضارها معهم للاستنتساخ والتقليد.
أعود مرة أخرى إلى الخليجي في النمسا، قوافل من النساء المتضمخات بالعطور، بنظارات سوداء وحقائب يد فاخرة، وخلفهن خادمات آسيويات يدفعن عربات الأطفال ويحملن أكياس البضائع. حين تذهب إلى المباني الأكاديمية والمعاهد القديمة، وإلى دور الموسيقى الكلاسيكية والمتاحف، وتتجول في الأزقة التراثية التي ما زالت روائح بدايات النهضة عالقة بها، لن تجد خليجيا ولا عربيا واحدا ، إنهم كلهم هناك، حيث الصخب والأضواء وأماكن الاستغفال والاستهلاك وجر الذيول.
لله في خلقه شؤون، ومن الواضح أن كثرة المواعظ والنصائح لا تغير في العقول.