أكرمني وأسعدني أخي في المشاعر وفي الأمل والترقب وزميلي في كتابة الرأي أبو عبد الله قينان الغامدي، حين تناول في صحيفة مكة يوم السبت 21 رمضان 1435 واحداً من مقالاتي بالتشريح المنهجي والتحليل الهادف، مختتماً بالتساؤلات التي لابد منها.
بدايةً أغتنم الفرصة لتهنئة الصحيفة الفتية مكة بانضمام أحد أعمدة كتابة الرأي وأشجعهم إلى قائمة كتابها المتميزين، وأهنئ الزميل قينان على حسن اختياره لخوض تجربة جديدة، وهو السباق دائماً إلى خوض كل مضمار جديد خلال تاريخه الحافل بالتجديد والإنجاز.
مقالي في صحيفة الجزيرة يوم الأربعاء 16/7/2014 م كان بعنوان: من الذي أيقظ هذه الوحوش المذهبية؟. جاء الرد عليه من الزميل قينان تحت عنوان: أين الهند وأين العرب اليوم، ومتى النهاية يا د. جاسر؟
ما دام السؤال الكبير يبحث عن النهاية، إذاً لا بأس في أن أبدأ من النهاية. دعني أقتبس بعض ما ورد في نهاية مقالك يا أبا عبد الله: الهند استقلت والتفتت نحو داخلها تتفقد عيوبها بصراحة مع الذات وتعالجها بوعي وجسارة، ولم تأنف من أن تستفيد من تجربة بريطانيا (التي استعمرتها) في إقامة دولة المؤسسات، أما عالمنا العربي فقد استقل لكن استقلاله لم يتجاوز الأرض إلى النفوس، بينما الحل بيده لو أراد.
بعد ذلك كررت «لو أراد» عدة مرات، مختتماً بقولك: وأنت خير من يعرف معنى ومدلول «لو» وخير من يدرك أن الحلول في عالمنا العربي لا تبدأ من حيث انتهى المتقدمون الناجحون.
ثم تختتم بياقوتة المقال الثمينة (والمقال كله ثمين) هكذا: وهذه الوحوش الطائفية هي مؤشرات البداية، وراجع تاريخ أوروبا فلربما تمكنت من تحديد النهاية يا رعاك الله.
صدقت والله يا قينان، رعانا الله جميعاً، فهذا هو رأيي أيضاً بالضبط. إن التوحش هو بداية النهاية، نهاية ثقافة التوحش، ولربما تغيب عنك حقيقة لا تعرفها عن أخيك جاسر، هي أنه من أكثر المتأملين في تاريخ النهضة الأوروبية ومن أكثر من كتبوا فيها وعنها. بهذا الصدد أحيلك (من أرشيف مقالاتي في صحيفة الجزيرة) إلى مقال بعنوان: اقرأ وفكر واستنتج، نشرته بتاريخ 29/1/2014م. إن سمح وقتك وقرأت هذا المقال سوف تتعرف حتماً على استقرائي للتاريخ على هذا النحو: لا تحصل يقظات الشعوب التي تتبعها الانطلاقة إلا بعد أن تدمر الشعوب المضللة بالخرافة والتجهيل معظم إمكاناتها المعيشية إلى أقصى الحدود للأسف، لكي تخضع بعد ذلك للواقع الحقيقي لمعنى الحياة، الذي هو التعايش وردم آفات الماضي تحت الركام.
الآن أعود إلى البداية، أي بداية مقالك التعقيبي الثري والجميل. أشاطرك الرأي في مسكونية العيب الفاضح والمعطل في العقل العربي، عيب البحث عن أسباب المآسي والفشل والخيبات عند الآخرين، لكنني سوف أوضح لك الفارق بين ما جرى في الهند وما حصل في العالم العربي.
في الهند حاولت بريطانيا أولاً مع المهراجات وحكام الأقاليم لتطبيق سياساتها في التفتيت، لكنها فشلت بسبب نباهة الهنود واستقطاب ميولهم الوطنية نحو رموز وأهداف التحرير وضد المستعمر البريطاني. إضافة إلى ذلك كان عند الهنود غاندي ورابند رانات تاغور ومحمد علي جناح وجواهر لال نهرو وكرشنا مينون، وغيرهم المئات من الرموز الوطنية التي أخلصت لمفاهيم التعايش وكرست حياتها بالكامل لذلك. حاولت بريطانيا أن تفعل بالهند ما فعلته بالعرب، أن تفتن بين الأديان والمذاهب والطوائف، واستطاعت دق اسفين بين غاندي الهندوسي ورفيق كفاحه المسلم محمد علي جناح، وسلطت على غاندي من اغتاله فأججت مذبحة دينية هائلة بكل المقاييس بين المسلمين وبقية الهنود. بهذه الطريقة استطاعت بريطانيا شطر الهند القديمة إلى أربع قطع: الهند وباكستان الغربية والشرقية وكشمير. ما زالت الحروب بين هذه القطع مستعرة، والنتائج النهائية في علم الله، وما زالت بريطانيا والغرب يلعبون هناك على الطريقة البريطانية.
الخلاصة هي أن الهنود استطاعوا علمياً وتقنياً وتنموياً التقدم إلى الأمام، لكن التعايش بين الأطياف الديموغرافية، وبين هذه والجوار (الهند وباكستان مقابل العرب وإيران) لم يصل بعد إلى نفس المستوى من العقلانية.
أذكرك مرة أخرى: كان للهند رموز في التعايش على المستوى الفلسفي والعقائدي، وتسلَّمت المسؤولية البرجوازية المستنيرة الواعية وهي التي أسست للنهضة الهندية الحديثة.
المؤسف أن الرموز في حركات التحرر العربية لم تكن بذلك العمق والالتزام.
تسألني عن النهاية والبداية؟ البداية تكمن بالضبط في النهاية الحتمية للانخداع الشعبي اللاعقلاني بتجار المذاهب والطوائف والقبليات، ثم اعتراف الجميع بسلطة الجوع والخوف من التلاشي، يتبع ذلك محاولة استئناف حياة جديدة تقوم على التعايش وتكافؤ الفرص وبداية نهضة بمفاهيم تختلف عن تلك التي دمرت كل شيء.