الذي يقع اليوم في دول عربية كليبيا والعراق ينذر بمستقبل غامض وخطير على شعوبها وعلى المناطق المجاورة لها... إن القشرة الحامية للدولة إذا تبخرت فكبر أربعاً على وفاة المؤسسات...
.. وبدون مؤسسات قوية تتوقف مصالح الخاص والعام سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وتعليمياً وهلم جرا... فالصور التي تحملها التلفزات العالمية للإخوة الليبية وهم يتقاتلون في أبشع الصور للاستيلاء على مطار طرابلس وتدمير الطائرات ومصالح المطار أقرب إلى فيلم هيليودي خيالي من الواقع ولكن للأسف فإنما هو الواقع بذاته ولله الأمر من قبل ومن بعد. ثم هناك مناطق تعج بتيارات تظن أن الزج بالدين في السياسة مسألة صحية وسرعان ما تنتقل إلى أساليب ما جعل الله لها من سلطان.
إن بناء أي دولة وقيام أي نهضة أمر ضروري جداً لصالح المواطن ولصالح الدين أيضاً، إلا أن هذه النهضة لا تكون إلا إذا قامت على أسس من تجديد للروح وتحديث للعقل العربي، لتصبح وعياً فائقاً بالماضي والحاضر والمستقبل وبقوانين العلم والحياة، بنظام الكون ومنطق التاريخ. أما استفراغ الإسلام في شكل سياسي واستخواء الدين في صيغة حزبية كما يكتب أحدهم، فهي مصيبة كبيرة وداهية عظمى وخطورة على الدين والسياسة. لأن هذا يضع جرثومة مكائد السياسة وبعض أساليبها في ساحة الدين الطاهرة والمقدسة، ويباشر أمور الدين الحنيف بألاعيب الأحزاب ووصولية طرائقها، ويجعل التدنيات السياسية والتلاعبات الحزبية وكأنها مُثل دينية عليا، فضلاً عن الآثار السلبية الخطيرة على عامة المسلمين... ويضاف إلى ذلك أن تغليب السياسة على الدين والإلحاح على العمل الديني بمكائد السياسة وجعجعة التحزب وطنطنة الشعارات يحول التجديد المرجو إلى مد أهوج غير بصير. والغاية من التمييز بين السياسة والدين أن الأعمال السياسية هي أعمال بشر لا يمكن أن يكونوا مقدسين أو معصومين... وعكس هذا التمييز يعمل على خلط الأوراق وتمييع الحدود وتزييف الضوابط وتحريف المعاني... وهذا التمييز هو الذي يخدم الإسلام ويعلي من شأنه ويزلزل أي احتمال لاستغلاله الخاطئ في أغراض سياسية وتوجهات حزبية ويتلافى كل الأخطاء التي حدثت على مر التاريخ الإسلامي، والتي استطالت وأسرفت.
فالأصولية الروحية العقلانية كما قلنا وكتبنا ذلك مرارا هي التي تتمسك بروح الإسلام وجوهره، وتتشبث بأصل الدين وصميمه، لتلتفت إلى الإنسانية والعالمية وتدأب على الحركية الدائمة والتقدم المتواصل. أما الأصولية الإسلامية السياسية المتشددة فتدلف إلى الماضي لا إلى المستقبل، وتتجمد عند وقائع بعينها، وتعادي مسيرة الأمم الحضارية إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ، فمعنى الآية الحقيقي أن التغيير الحقيقي يبدأ من النفس، ليتواصل مع العمل الصحيح الأمثل والفعل الحركي البناء لا مجرد تعلق بالشكليات أو تمسك بالترهات والخزعبلات بل هو شق كبير إلى الجوهر... وأما آن الأوان ألا تدع الأحزاب الإسلامية أرواحها تسبح في متاهات لا حد لها فتنتبه ولا تلدغ من جحر الجهل السياسي مرات، ومرات؟ وأما آن الأوان لأن تتحول إلى أحزاب محافظة حيث الدين للجميع والسياسة هي فن إدارة الاختلاف بين فاعلين سياسيين وسياسيين آخرين لا بين فاعلين دينيين وسياسيين.
إنه لحقيق بالأحزاب الإسلامية أن توصد باب التيه، وتبقى بعيدة عما يؤذي المجال الديني والمجال السياسي على السواء، وأن تترك الدين متعالياً على أوحال السياسة والمعامع الانتخابية ومعاركها وإلا وقعوا وأوقعوا معهم كل الفاعلين في الوحل فتتلطخ الثياب البيضاء وتهبط معهم الفكرة التجديدية، فتجري في المجرى الذي تجري فيه مياه الشرب في الأعراس الرياضية، الممزوجة أحياناً بدم تريقه اليد السوداء لاغتيال التجديد.
وتبقى آليات الانتقال عبر التوافق التعاقدي وهو الذي لم يطبق في العراق للأسف الشديد وكان حري بالفاعلين السياسيين العراقيين تبنيه... وهذا الانتقال هو الذي ينطبق عليه مفهوم «عقلنة التغيير بدون التهييج والتثوير»، الكفيلة بإحداث ثورة سياسية هادئة بعيداً عن ويلات الفوضى واللامجهول وإمكانية الرجوع إلى سلطوية أشد فتكا وأكثر خديعة ومكرا.
ثم إنه لحريٌّ بالنخب السياسية أن تتفنن في تطبيق المواثيق التعاقدية السياسية في بلدانها حسب الخصوصيات التاريخية لكل بلد، ولكن بالحفاظ على ثوابت الميثاق التعاقدي.. وهو اتفاق بين مجموعة قوى ساعية لتحديد -أو إعادة تحديد- القواعد التي تحكم ممارسة السلطة على قاعدة ضمانات متبادلة للمصالح الحيوية لكل الأطراف المشاركة في العملية، وهو بذلك يكون جامعاً لبعض الشروط الأساسية وبقراءة علمية ومتأنية لها سيفهم الخاص والعام أنها لو طبقت في بلدان كالعراق وليبيا ما وصلت إلى الأفق المسدودة التي وصلت إليها اليوم:
- أنه اتفاق صريح ولو لم يكن معللاً علناً بين مجموعة القوى السياسية.
- أن قاعدة الضمانات المتبادلة تكون محترمة، بحيث إن أطراف المعادلة تحرص على عدم المساس بالمصالح الحيوية لكل طرف.
- أن قاعدة التنازلات المتبادلة يجب أن تكون مقرونة بجهد فكري وميداني بل ورياضي يجعل كل طرف يعي حدود التنازلات وحساسية المجال التفاوضي السياسي.
- خلق الدعائم المؤسساتية القبْلية التي تسمح بجعل العروض السياسية الجوهرية مقننة وعقلانية بالدرجة التي لا يمكن للفئة الأخرى أن ترى فيها نوعاً من التهديد الذي يمكن أن يقوض العقد السياسي.
وهذا الميثاق السياسي في دول انتقالية يكون بين فاعلين أفراد بشر ليست لهم عصمة أو قداسة.. فلا عصمة للحكم ولا قداسة له بين الناس وإلا انفرد طرف بالسلطة وأقصى الآخر واغتصب الثروة وتجاوز الأحكام.
ومنذ سنوات وأنا أنادي بضرورة خلق تكتلات وأحزاب محافظة يمينية بدلاً من أحزاب إسلامية يمينية. فالدين للجميع ويجب ألا يمس بالانتهازية السياسية وبأعمال الجهال غير المبصرين، ويجب ألا تذوب قيم الإسلام السامية في سلوكيات السياسيين وفي تمثلات المجال السياسي العام: وما وقع في مصر وتونس أفضل دليل على تذبذبات المجال السياسي العام في بيئة انتقالية معقدة: إذ بمجرد ما تتزعزع أركان المواثيق السياسية بحادثة أو واقعة أو خروج المتظاهرين إلى الشوارع والميادين وينتقد الخاص والعام الأحزاب، بما في ذلك الأحزاب السياسية التي في الحكم، يزج بالدين وبطريقة غير مباشرة، في متاهات باطلة فيضطرب كل من الفهم الديني والعمل السياسي ويضطرم كل خلاف وأية خصومة ما دامت تكتسب من الدين قوة عاطفية وتقتبس من الشريعة فورة عارمة: عندما تنتقد هذه المعادلة، فإن الدين هو الذي ينتقد ويزج به إلى حلبة للصراع ما أنزل الله بها من سلطان.
وفي المظاهرات التي تلت مثلاً مقتل السياسي التونسي المعارض شكري بلعيد، دروس يجب أن تعيها كل الأحزاب: فالهتافات الصارخة حتى من أولئك الذين كانوا قد صوتوا على حزب «النهضة»، تعني انتقاد استفراغ الإسلام في شكل سياسي وانتقاد استغلال الدين في صيغة حزبية، وهذا أمر شديد الخطورة على الدين والإسلام والمسلمين والبشرية جمعاء... والمظاهرات التي كانت تعرفها مصر إنما تعني أن المتظاهرين كانوا ينتقدون، بوعي أو بغير وعي، أناساً ينقلون إلى ساحة الدين مكائد السياسة ودناءة أساليبها، ويباشرون أمور الإسلام بألاعيب الأحزاب ووصولية وانتهازية طرائقها، لأن السياسة حيلة وذكاء ودهاء ومكر وخديعة؛ فليس من الملائم أن يجعل من التدنيات السياسية والتلاعبات الحزبية مثلاً دينية عليا دون نسيان الآثار السلبية الوخيمة على جماعة المسلمين.