كثير من الأحداث خلقت واقعاً جديداً، وصححت المسار، لولا أحداث الإرهاب في السعودية التي كان أولها في منتصف التسعينات لم نكن سنعي بأن هناك سعوديين يهاجمون الدولة باسم الدين الذي هو منهجها قبل أن يكون أهلها الأكثر تديناً والتزاماً به، وعلى أرضها بعث محمد صلى الله عليه وسلم، كما تحتضن البيت الحرام ومسجد الرسول عليه السلام، ولولا أحداث سبتمبر 2001 في أميركا لم نكن سندرك بأن هناك من يصطاد أبناء السعودية بسهولة ويجندهم باسم الدين لضرب الدين أولاً ثم الدولة وسياستها ومصالحها،
علمنا وقتها أن هناك عدوا بيننا يشبهنا في كل شيء تقريباً إلا في شيء واحد وهو تطبيقه لأفكار التكفير والتفجير وانسياقه خلف سيد قطب ومن شابهه دون دراية، بسبب تعليم كان فيه أعداد ليست قليلة من الإخوانيين والتكفيريين، وأجواء مشحونة فرضتها مرحلة «الصحوة» كما يُطلقون عليها، ولولا 11 سبتمبر بآلامها الإنسانية والسياسية لم نكن سنعلم حجم الكارثة التي كانت ستنتظر المجتمع والدولة، ولكن استيقظنا جميعاً من سبات طويل، وقررنا نفض الغبار وخضنا بشكل واسع حرب الإرهاب، وخسرت البلاد خيرة شبابها من رجال الأمن ومن الضحايا الأبرياء.
الحرب على الإرهاب التي أشاد بها العالم، وحيّاها من حمّلونا مسؤولية الإرهاب ظلماً، كانت حاسمة وحازمة، وجعلت المتراخين والمترددين يعرفون بأن التشدد والتطرف لا يمكن قبولهما، وأن الدين لا تؤخذ تعاليمه من حزبيين وظلاميين تربحوا من الكهنوتية وطبعوها في العوام في تعاملهم مع دين قضى على كل الحواجز والوسائط بين العبد وربه، وأظهرت السعودية حقيقة رسالتها الدينية التي حملت مضامين الإسلام، وقالت للعالم بعد سنوات من العزلة الثقافية هانحن نمد أيدينا ونؤكد أننا شركاء معكم لحماية الإنسانية من شرور التطرف، بين 2001 و2013 مرت أحداث مؤلمة ولكن الأكثر إيلاماً هو ظهور تنظيم داعش، والذي حاول إيجاد نموذج ديني متشدد ومتصلب يدمر ويقتل بوحشية، ويقدم نسخة مسيئة للإسلام وخصوصاً الطائفة السنية، ولمنهج السلف الصالح، الذي فهمه الإرهابيون على طريقتهم، مما استوجب أن نثور مرة أخرى على أنفسنا لمراجعة تراثنا، لتفهيم الجهلة وتعليمهم وصون دمائهم من أن تزهق في حروب خاسرة، وحماية الأجيال من الفهم القاصر وتبسيط العلم لهم ليستوعبوا الدين ومقاصده دون غلو.
هذا ما شدد عليه خادم الحرمين الشريفين عندما خاطب العلماء المسلمين غاضباً من كسلهم وتراخيهم وتجاهلهم، لأن الصمت يمنح إرهاب داعش وأخواتها فرصة لهز استقرار المنطقة، ويعطي مناخاً لتطور الأفكار التي تجعل للإرهاب كياناً يتسلط ويبطش.
لست مع من يؤمنون بنظرية المؤامرة، وأن داعش خلقتها أميركا أو الصهاينة لضرب الاستقرار في المنطقة وتشويه الدين، فلا شواهد حقيقية على ذلك، بل إن الأميريكيين في حاجة لاستقرار العراق بالتحديد ومنطقة الخليج، ولا يوجد فائدة واقعية ويمكن اعتبارها مبررا منطقيا لاستنبات التطرف، لأن الجميع يدركون بأن عواقب خلق هذه التنظيمات وخيمة وستؤدي إلى كوارث كبيرة، والسياسي في الغالب يرجع إلى الماضي عندما يصيغ سياسات المستقبل، والماضي يعلمنا جميعاً بأن التطرف لا يمكن بأي حال من الأحوال توظيفه لتحقيق غايات سياسية.
داعش تعتمد بشكل كبير على الشباب، وتركز على بث الحماسة في نفوسهم، وتخاطب طبقة اليائسين والفشلة، ففي كل منهم داعشي صغير، يرعاه التنظيم ويجعله مقبل على الموت من أجل الخليفة والخلافة، وربما الخطاب السطحي لمنظريهم يستهدف سطحية شباب لا يعرف ماذا يريد، وفي داخله تطرف مكبوت لم يتخلصوا منه بالاطلاع والمعرفة، وكانوا بلا شك ضحية فكر الصحويين المتحمسين والدعاة الإخوانيين.
نحن أمام فرصة ذهبية لإصلاح الخطاب، وتصويب المسار، ولدينا القدرة على تغيير الواقع، إذا كنا نريد للمجتمع أن يبقى ملتزماً بالإسلام الصحيح، وقادر على التمييز والفهم، وما تقدمه داعش هدية ثمينة، وإن كانت مؤلمة، لتضرب الدول بيد من حديد على منابع التطرف، ولتراجع ماضيها وحاضرها وتتطلع بأمل لمستقبلها.