على مدى أكثر من ثلاثين سنة من تاريخ المملكة العربية السعودية ظل الإرهاب (ونعني به: العدوان على أمن الوطن تحت شتى الذرائع) يطل برأسه بين الفينة والأخرى، مستخدماً أنواع الذرائع الفكرية والسياسية والدينية، وعندما نقرأ في الخلفيات الفكرية لهذه الذرائع فيمكن توصيفها على النحو التالي:
الأول: الذرائع الميتافيزيقية «الغيبية»:
ونعني بها اتكاء الإرهاب على فكرة غيبية لا يمكن اختبار فرضية صحتها من عدمها، ومن أبرز الأمثلة هنا: الاتكاء على فكرة المهدوية، كما حصل في حادثة الحرم المكي عام 1400؛ حيث تترَّست الجماعة خلف هذا الفكرة التي لا يمكن - كما قلنا - إثبات صحتها أو خطئها حتى يتمكنوا - في المقام الأول - من عزل أتباعهم عن الواقع، وشل قدراتهم على التفكير العقلي، وهذا ما حصل مع هؤلاء بالفعل، فتبع سدنتهم عدداً من الناس دون أن يفكروا بسؤالهم عن هذا الطريق المجهول الذي يمضون فيه، أو على الأقل يتمكنوا من مناقشة هذه الفكرة الغيبية واختبارها! وبمثل هذه الفكرة تعلق الأتباع بأحاديث الفتن والملاحم، وتنزيلها على الواقع، أو التعلق بالرؤى والمنامات، وهذه الأخيرة تشكل حيزا كبيرا من تفكير هؤلاء؛ لأنهم عجزوا أن يتعايشوا مع الواقع وفشلوا أن يستوعبوه، ولذلك فهم يهربون إلى عالم الخيال، فيتعلقون بالمنامات تعلقاً شديداً، ويلحون في سؤال المعبرين عنها! وهنا بالمناسبة أشير إلى خطورة أن يفتح باب التعبير لكل أحد؛ بل لو أغلق هذا الباب - على المستوى العام- لما كان ذلك مذموماً، وخاصة أن تعبير الرؤى من العلوم التي لا يمكن قياسها - وهذا وجه الخطورة فيه -، إذ ليس له مقدمات كغيره من العلوم بحيث يمكن الحكم بالمهارة والإصابة على من تجاوز هذه المقدمات، فعلم الشريعة لا يكون الإنسان عالماً فيه حتى يتجاوز مقدماته من معرفة النصوص وفهمها وإدراك آلة العلم وتحصيلها، ومثل ذلك العلوم الدنيوية الأخرى، ولهذا يكثر في هذا العلم الأدعياء والكذبة.
الثاني: ذرائع الإصلاح السياسي والاجتماعي:
لا أحد يشك في أن الإصلاح من أعظم المهمات، بل هي مهمة الرسل وأتباع الرسل، {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ} وهذه المقدمة محل اتفاق بين كل الشرائح، لكن المشكلة التي تواجهنا هنا هي في تكييف هذا العمل وهل يدخل من باب الإصلاح أو لا؟ وسر التشابك في هذه النقطة بالتحديد هي أننا لم نتفق - بعد- على ثوابت في الإصلاح لا نتجاوزها بحال، فوصل الخلط بدعوى الإصلاح هنا إلى أقصى مداه، فبتنا نسمي الاستقواء بالخارج إصلاحاً، وأن الذي يجمع المال ويدعم الإرهاب في الداخل مصلحاً، وأن الذي ينادي يخلع البيعة الشرعية مصلحاً، وهذا يعود بنا إلى ضرورة وضع ثوابت في الإصلاح: ثوابت شرعية وثوابت وطنية: كأن نقول مثلاً: يخرج عن مسمى الإصلاح من ينازع الحاكم في أمره ويفتات عليه في سياسته الشرعية، ويخرج منه من يستقوي بالأجنبي على بلده، ونحو ذلك من الضوابط والحدود. وهنا نؤكد على ضرورة وجود جهة رسمية فكرية تعتني بضبط مصطلح الإصلاح وما هي حدوده ووسائله، وهذه في تقديري ضرورة مرحلية مهمة حتى نشيع الإصلاح من جهة، وأن الدولة قامت منذ تأسيسها على حركة إصلاحية - وهي دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله -، ومن جهة أخرى - وهي مهمة جداً - حتى نحرر مصطلح الإصلاح من الاختطاف والاحتكار ونقطع الطريق على التوظيفات السلبية لهذا المفهوم!.
الثالث: ذرائع الإصلاح الديني:
أكثر ما تذرع به سدنة الإرهاب: الإصلاح الديني، أو التغيير الديني، ويتكئون في هذا على تصورات ساذجة للدين، فمثلاً تذرع خطاب العنف لدينا في وقت سابق على إفساده وإجرامه بالتفجير والتكفير بحديث «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» فكان هذا الحديث هو شعار المرحلة الأكثر شراسة في تاريخ العنف في المجتمع السعودي، وذلك بعد أن تم عزله عن سياقه الشرعي الصحيح، وتحميله حمولة كبيرة من الدلالات الخطيرة، والترويج على أنه دعوة إلى قتل غير المسلمين الذين يسكنون في جزيرة العرب، وتجاهل أولئك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجل اليهود، ولم يفعله أبوبكر - رضي الله عنه - أيضا، وأن أصحاب العهد والذمة غير مشمولين بهذا الحديث قطعاً؛ لأن الأمر بالإخراج من النصوص العامة والأمر بحفظ دم صاحب العهد من النصوص الخاصة - من مثل حديث «من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً»-! والمقصود من هذا أن الوطن دفع فواتير ضخمة ومكلفة بسبب تصور مقلوب لنص شرعي، جرى توظيف هذا النص واللعب بعواطف البسطاء والمغرر بهم اتكاء على هذا الفهم المقلوب!
وهذه المسألة -أعني اتكاء الإرهاب على التغيير الديني- هي مسألة بالغة الحساسية والخطورة خاصة في مجتمعنا السعودي المحافظ ؛ لأنه مجتمع يحترم الخطاب الشرعي، ويكرم حملته من الفقهاء وطلبة العلم، ولهذا فإنه من السهل جداً تسويق بعض المفاهيم والأفكار وترويجها في المجتمع عبر تغطيتها بهذا الخطاب، وأيضا في المقابل يمنحها الحصانة من النقد العلمي، ولهذا فيحاول تيار الغلو دوما أن يحمي أفكاره ومشروعاته بهذا الخطاب، ويبالغ في ذلك، حتى بات يخيل إلى الناس أن نقد هذا المفهوم أو هذه الفكرة إنما هو نقد للدين، وهدم للشريعة، ومن أبرز الأمثلة على ذلك شعيرة الجهاد في سبيل الله، وما أثير مؤخراً في وسائل التواصل الاجتماعي من نقد علمي منهجي لتيار الغلو الذي يحاول أن يحتكر شعيرة الجهاد في سبيل الله، وأن «القاعدة» أو «الدولة» أو «النصرة» هي الجهاد، وما الجهاد إلا هم، ومن يتابع ردود أفعال أولئك على هذا النقد العلمي سيلاحظ كيف يستميت سدنتهم بمدافعة هذا النقد وتصويره على أنه نقد لهذه الشعيرة وازدراء بأهلها وحملتها، ولهذا كان من المهم جدا على طالب العلم أن يدرك هذه الحيلة، وأن يستقر في قلبه وعقله أن الغيرة الحقيقية على شعيرة الجهاد في سبيل الله لا تكون بالسكوت عن أخطاء هؤلاء وتصرفاتهم تجاه هذه الشعيرة، وإنما بممارسة النقد العلمي الصحيح لمنهج هؤلاء، وتفكيك تصوراتهم الباطلة لهذه الشعيرة، حماية لدين الله وحرصا على هذا النشء الذي تتقاذفه أمواج الشبهات في هذه الوسائل.
إننا أحوج ما نحتاج إليه اليوم في تربية الناشئة على تدريبهم وتربيتهم على قيم العقل والتجرد والإنصاف، وأن نشيع بينهم روح التفكير العلمي الذي يجعل الشاب يستشكل المواقف ويسأل عن البراهين ويناقش الأدلة ويجادل في الحجج، لا أن يسلم عقله وفكره لعاطفته الجارفة.
كما أن من أهم ما يجب أن نربي عليه النشء تعليمهم أن الحق مقام رفيع ليس بالسهولة إصابته وبلوغه، وأن تضحية الإنسان بنفسه وبذله لروحه ودمه لا يعني بالضرورة صواب منهجه وصحة طريقه، وهنا أتذكر- في هذا السياق- قصة رائعة للإمام الحسن البصري تجلت فيها عبقرية هذا الإمام، وكيف فهم بشكل مدهش حيلة الخوارج ومقصودهم، فالكثير من الناس يظن أن هذه الفرقة من الفرق الرسالية التي لا يهمها شأن السياسة، ولا يعنيها أمر الدنيا بحال.
لكن الحسن البصري - رحمه الله - له فهم غير هذا، وهذه القصة تُبين عن هذا الفهم الدقيق: سأله أحدهم عن الخوارج: من هم؟ وما شأنهم؟ فقال بسرعة: هم أصحاب دنيا! وهنا يذهل السائل والقارئ: كيف هؤلاء أهل دنيا وهم يستقبلون الموت ويرحبون به، بل ويتهافتون عليه؟! فيقول السائل متعجباً: ومن أين قلت؛ وأحدهم يمشي في الرمح حتى تنكسر ؛ ويخرج من أهله وولده؟!! فيقول الحسن: حدثني عن السلطان ؛ أيمنعك من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحج والعمرة؟ فقال السائل: لا. قال الحسن: فأراه إنما منعك الدنيا فقاتلته عليها!! ومعنى كلام الحسن رحمه الله على وجه التفصيل: أن أهل الغلو وإن بذلوا أرواحهم ومهجهم وأراقوا دماءهم فإن هذا لا يعني أنهم يريدون الآخرة، بل إنما هم يريدون الدنيا ويسعون إليها؛ لأن السلطان لم يمنعهم شعائر الإسلام أن يقوموا بها وإنما منعهم أن يسوسوا الناس ويتولوا عليهم فقاتلوه على ذلك! هذه هي المعادلة باختصار. يا لجمال هذا الفقه وجلاله، وهذا هو الفقه الذي يكاد أن يكون مفقوداً بكل أسف، ونحن اليوم أحوج ما نحتاج إلى بعثه وإعادته ، فقه لم يتأثر بالأيدولوجيا ولم يتلوث بالعواطف، بل قائم على التجرد المطلق، والانحياز للشريعة دون سواها.
وهذا يؤكد الحاجة الماسة إلى التربية على منهج العقل والحوار؛ لأنه هو الكفيل بعد توفيق الله على هدم مشروع الغلو والتطرف؛ لأنه قائم في أصله على توظيف العاطفة، بل هي اللعبة الوحيدة التي يتقنها، فهو في كل يوم يضيف هذا التيار إليه الكثير من الأتباع والمتعاطفين بهذه الطريقة، وكم من مقطع صوتي قصير مكتنز بالعاطفة فعل بالشاب ووظفه ما لا تفعله عشرات الكتب المليئة بالبراهين والحجج.
يجب أن نعترف بكل أسف أن تيار الغلو كان يشتغل طيلة الفترة السابقة على زحزحة موقف الخطاب الشرعي والدعوي من الاعتدال، أو بالتحديد موقفه من «ولي الأمر»، فحاول تيار الغلو جهده أن ينقل الموقف إلى نقطة بعيدة جداً، و- بكل أسف - ربما نجح أحيانا، ووقع البعض من طلبة العلم في الفخ، فاتخذ مكاناً قصياً وبدأ يشكل مواقفه وتصوراته وهو في هذا المكان، ونتيجة لذلك - لأنه يسكن في المكان الخطأ- بدأ في المقابل يقوم بأدوار ليست من مهمته، بل هي من صميم عمل الحاكم «ولي الأمر»، مثل التدخل في علاقة الدولة مع دول الجوار، وتوجيه النصائح العسكرية للشعوب المجاورة! بل وربما حصل أبعد من ذلك، وهو أن يجعل من نفسه حكماً بين علماء تلك البلاد فيصوب طائفة ويحكم بالضلال على طائفة أخرى! كل هذا يفعله وهو متكئ على أريكته!، أو نحو ذلك مما هو ليس من شأنه أو هو من شأن الحاكم واختصاصاته، ولو غير طالب العلم من مكانه واقترب قليلا لأدرك اللعبة وعرف خيوطها. ولو أجرينا دراسة دقيقة لخطاب بعض طلبة العلم وحللنا تطورات هذا الخطاب والمراحل التي مر بها، وقارنها بين ماكان عليه اليوم وماهو عليه قبل سنوات، سنكتشف حتما أن ثمة نقلة خطيرة باتجاه الغلو بكل أسف، والسبب في تقديري أنه وقع ضحية للاستراتيجية التي يسير عليها تيار الغلو من غير أن يعلم، فمثلا يتبع هذا التيار مع طالب العلم ما يمكن أن أسميه «الترقي بالصدمة»، فمثلا: يتخذ هذا التيار موقفاً غاية في التطرف مثل قتل رجال الأمن - كما فعلوا في السنوات الماضية - فيأتي طالب العلم لينكر هذا العمل ويدينه لكنه من غير وعي ينتقل درجة واحدة مع تيار الغلو، فيتفهم -مثلا- قتل المعاهدين وإن كان يدينه ويرفضه، لكنه ليس بنفس موقفه من قتل رجال الأمن ! وهكذا يبدأ يترقى طالب العلم في مدارج الغلو وهو لا يشعر! والسبب الحقيقي - برأيي- أن هذا الطالب للعلم لم يفاصل الغلو مفاصلة حقيقية، فهو يعلن أن اختلافه معهم فقط في الاجتهاد وتحقيق المصالح والمفاسد وليس خلافا أصولياً! ولهذا - فأنا مؤمن غاية الإيمان أنه لن ينجح طالب العلم في تدارك هذا الخطأ والنزول من هذا السلم إلا بأن يعود أدراجه ويتتبع مواضع أقدامه ويهيل عليها التراب ويبدأ في السير من جديد، مستصحباً في ذلك أن تدينه السابق هو مجرد اجتهاد لفهم الدين، فينظر فيه هل هو تدين صحيح جاء على وفق فطرة الإسلام وهدي الشريعة، أم أنه تدين مكتسب استمده من التيار الي حوله، ثم ليسأل نفسه بطريقة عقلانية: من الذي شكل تدينه وقناعاته على هذا النحو؟ ومن الذي رسم علاقته المتوترة مع السياسي (ولي الأمر) بهذه الطريقة؟ ومن الذي جعله يفترض أن الحق يقع دوماً في مقابل قرار السياسي وليس معه؟ لماذا لا يفرح بهذه المكتسبات الشرعية الضخمة في بلده؟ ولماذا تبدو دوماً في عينيه صغيرة؟ لماذا إذا رأى شعائر الإسلام عزيزة في بلده لا يفرح ولا يغتبط ولا يفكر حتى أن يدعو لمن رعاها وأقامها؟ لماذا يفعل كذا هذا؟ ومثل هذا من الأسئلة التي تعيده بإذن الله إلى جادة الحق والصواب.
أخيراً: لابد من التأكيد على ما أشرنا إليه آنفاً وهو - في تقديري- مهم جدا، وهي أننا لن ننجح في تطويق تيار الغلو والتطرف وإيقاف تمدده بيننا، حتى نفاصل هذا التيار مفاصلة حقيقية، ونعلن منابذته والنفير العام لمواجهته، وأن خلافنا معه ليس خلافا في الاجتهادات والتصرفات والمصالح والمفاسد، بل هو خلاف أصولي في المنطلقات والتصورات والثوابت. وما لم نفعل ذلك فنار الغلو لن تستثني أحداً، ومن سلم من لهبها فلن يسلم من سمومها ودخانها، وإذا شئتم أن تختبروا صدق ما أقوله فطوفوا خلسة على أجهزة أولادكم وحساباتهم في وسائل التواصل وبرامج المحادثات.
والله أسأل أن يحفظ علينا ديننا وإيماننا وبلادنا وأن يستعملنا جميعا في طاعته ويسلك بنا صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.