الجزء الثالث
المكون الثالث من مكونات الخطاب الشرعي: المكون العقلي:
إن كثير من الإشكالات والشبه التي يحتج بها خطاب العنف أو غيره هي في المقام الأول هي قضايا عقلية وتصورات ذهنية وصور نمطية مسبقة، وأثرها خطير جداً، بحيث إنها تضع حجاباً على العقل من أن يمارس دوره الطبيعي في التحليل والفهم الصحيح، ولهذا لا بد من المكون العقلي حتى يزيل هذه الحجب من التصورات الذهنية بطريقة عقلية مجردة، فمثلاً نجح خطاب العنف منذ زمن قديم بزرع نظرية المؤامرة والتآمر في العقل الجمعي للشاب، وأوجد حالة من القطيعة بين الشاب وخاصة الشاب المتدين وبين الدولة وأجهرتها، فصار في العقل الباطن لدى الشاب بأن أي خيار تختاره الدولة أو قرار تصدره فإن الحق سيكون مقابله في الجهة الأخرى! فحتى لو كان خيراً محضا -ومصلحته ظاهرة - فإن الشاب سيستقبله بعين الريبة والشك، وأن هذا الخير الظاهر الذي فيه ما هو إلا جزء من المؤامرة لترويج هذا القرار ودعم مشروعيته! ولا زلت أتذكر ذلك الشاب الموقوف حينما تحاورت معه عن الذهاب إلى العراق ومهدت له - قبل أن أسأله عن موقفه - وقلت: حينما حصلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر والتي شارك فيها أكثر من 15 سعودياً، وأصبحت أمريكا في حالة استنفار من الدرجة القصوى، فأسقطت طالبان في أقل من سنة، ثم العراق بعدها، وصرح قادتها بأنه ليس هناك أحد بمنأى عن العقاب، وهذه إشارة خطرة جداً، وبعد ذلك وجهت له سؤالاً: لو كنت حاكماً لهذا البلد المسلم (المملكة العربية السعودية) الذي يحوي الحرمين الشريفين وكل أهله مسلمون ومن أهل السنة والجماعة، بربك: ماذا ستختار؟ هل ستسمح بإرسال الشباب إلى العراق وتجعل البلد عرضة وبقوة لأن يكون هو المرحلة الثالثة في الحملة الأمريكية الشرسة، أو تصدر قراراً بمنع الشباب من المشاركة في أحداث العراق مشاركة نهائية؟ ماذا ستختار؟ فقال مباشرة: لا أتردد من القول باختيار القرار الثاني! قلت: لماذا؟ أنت متآمر مع الغرب! قال: لا، ولكن هناك مفسدتان واخترت أخفهما! قلت: لكن لماذا لم تلتزم بأحكام الإسلام وتعلن الجهاد وستنصرون بإذن الله؟ قال: لا، هذا ليس حكمة لو فعلت ذلك بل هو حمق! قلت: هذا هو موقف ولي الأمر الذي تنازعونه سياسته!
مقصودي من هذه القصة أن الكثير من الشبه والإشكالات لا تحلها النصوص الشرعية ليس عجزاً عن ذلك - وحاشا أن يقول أحد بهذا - ولكن لأن النص مفتوح ومتعدد الاحتمالات فهو يحتاج إلى نفسية معتدلة حتى ينزل الحكم على الواقعة بشكل صحيح، لكن البرهان المنطقي سيضيق الاحتمالات إلى حد كبير ويكون العاقل كما يقال خصيم نفسه.
المكون الرابع: المكون الوطني:
ونعني به هنا أن يركز الخطاب على البعد الوطني، ويتناول القضايا الوطنية المتفق عليها، مثل مسألة خصوصية هذا البلد الكريم، وقضية الحرمين الشريفين، وفي تقديري أن القضية الأخيرة لم يتم توظيفها بالشكل الصحيح في تعميق الوطنية والانتماء الصادق لهذا البلد والاعتزاز بقيادة هذا البلد. ومع يقيني التام أن ولاة الأمر لم يقوموا بهذه الأعمال الضخمة والجليلة في خدمة الحرمين إلا رجاء ما عند الله وطلب رضاه، لكن لو كانت هذه الجهود العظيمة في بلد غير هذا البلد لاستثمرت غاية الاستثمار في تعميق الوحدة الوطنية وتكريس الشعور الوطني والانتماء حساً ومعنى لقيادة هذا البلد وولاة أمره.
وفي تقديري أن إشراك طلاب العلم والدعاة والمثقفين في المقترحات والمبادرات لمشاريع الحرم سيخلق حالة من الشعور والانتماء الوطني بشكل لا يمكن تتصوره. ومثل ذلك مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في المدينة المنورة، فهذا المشروع الرائد على مستوى العالم كلما رأيت آثاره في العالم أتساءل بكل أسى: لماذا هذا المشروع العملاق الذي سيحفظه التاريخ لهذا البلد المبارك لماذا ليس له حضور وطني يوازي قيمته؟ لماذا يبقى أشبه بالثكنة العسكرية المغلقة التي لا يراها الناس؟! لماذا التعامل مع هذا المشروع الكبير بهذا الخفوت الإعلامي الغريب؟! ولماذا هذا الزهد الكبير بمكتسباتنا الإسلامية والوطنية الضخمة ؟!
المكون الخامس: مكون المرونة والسعة والحرية:
يجب أن يستوعب الخطاب جميع الأطياف الفكرية التي يمكن الاختلاف معها، وحتى يقوم بهذا الدور عليه أن يتفادى جميع الأخطاء في الخطابات السابقة، وأكثر هذه الأخطاء خطورة أنها لم تكن خطابات متصالحة مع الآخرين، ولهذا ترك الناس الكثير مما تحمله هذه الخطابات من حق لأجل هذا السبب، والكثير من الشباب يرى أن بعض هذه الخطابات تمثل وجهة نظر الدولة أو الناطقة باسم الدولة، وهذا التصور الخاطئ ولد سلبيات ضخمة وكارثية على الولاء والانتماء الوطني فأصبح في نظر الشاب كل خطأ من هذا التيار أو هذا الخطاب يحسب على الدولة؛ لأنه ينطق باسمها ويعبر عن موقفها. والمفترض أن كل الخطابات - سوى خطاب المؤسسة الشرعية - لا تضع نفسها ممثلة للدولة ولا ناطقة باسمها، فالسياسي يقف دائما من التيارات الفكرية على مسافة واحدة.
وإضافة إلى ذلك يجب أن يكون لهذا الخطاب فضاء يمكن أن يتحرك فيه، ويسمح بهامش من النقد حتى يتفادى التصنيف؛ لأن الشاب متى ما وجد فرصة من تصنيف هذا الخطاب فسيسقطه ويستقبل مخرجاته بالشك والتردد! ومثل ذلك الخطابات المعارضة والمناهضة لهذا الخطاب فهي ستستميت قطعاً بمحاولة تصنيفه ليمكن لها بعد ذلك تقزيمه وتسطيحه ومن ثم إسقاطه.
عناصر تكوين الخطاب:
لا بد لهذه الخطاب حتى يرى النور من العناصر التالية:
العنصر الأول: الجهة الحاضنة للخطاب:
لا بد من جهة مستقلة تتولى إدارة هذا الخطاب ووضع مكوناته عبر مجموعة ضخمة من وورش العمل وحلقات النقاش مع طلاب العلم والمثقفين والمفكرين، وقد يتبادر إلى الذهن أن وزارة الشؤون الإسلامية يمكن أن تكون حاضنة لهذا الخطاب، فأقول مع تقديري الكبير لكل جهود المخلصين فيها فهي غير قادرة على تبني هذا الخطاب وترويجه لأن هذا الخطاب يتطلب أدوات فكرية قوية قد لا توجد لدى الوزارة، وهي مشغولة بأعمالها التنفيذية الضخمة. وأشير هنا إلى أن تجربة الوزارة في محاصرة الخطاب الفكري الغالي في خطب الجمعة، فقد بذلت جهودا كبيرة لكن في تقديري كان البعد الفكري العميق غائب عنها. لا يكفي أن تكافح الوزارة ما يسمى بالاعتصامات عبر توجيه الخطباء إلى قراءة فتوى اللجنة الدائمة على المصلين! إذ كان من الواجب أن تعقد الوزارة في كل فروعها ورش وحلقات نقاش عاجلة لمناقشة هذه القضية بشكل شفاف ومتجرد، وليس محاضرات تلقينية يتحدث فيها واحد وبقية الخطباء في حالة صمت انتظاراً لنهاية المحاضرة!.
إن الأفكار الكامنة والمفاهيم المشوهة لا تحلها فتوى أو تعميم، بل يجب مناقشتها في الهواء الطلق وتعريتها، ونزع الخلفية الشرعية عنها. والذي يعتذر بأن هذا اختياره الفقهي فلن يجد عذراً في التراجع عن رأيه من باب السياسة الشرعية.
ولهذا، لا بد من جهة مستقلة حاضنة لهذا الخطاب، إما أن تكون تابعة لوزارة التعليم العالي وهي حاضن جيد لولا بطء الإجراءات فيها نظراً لطبيعة العمل الأكاديمي، أو تابعة لمركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، ويجب أن يكون الفريق الذي يعمل يجمع بين العلم الشرعي وبين معرفة عميقة بالفكر العربي المعاصر.
العنصر الثاني: الوعاء العلمي لهذا الخطاب.
كما أن الشريحة أو الطبقة الوسطى في قطاع الاقتصاد هي صمام الأمان لكل مجتمع من الناحية الاجتماعية والناحية الاقتصادية فكذلك الطبقة المعتدلة فكريا هي صمام الأمان للمجتمع، والمؤسف أن هذه الشريحة بدأت تتآكل في الآونة الأخيرة وتذهب ذات اليمين وذات الشمال، وذلك نتيجة للاستقطاب الحاد والاصطفاف الفكري الشديد الحاصل اليوم في المجتمع، وبعض أفراد هذه النخبة فضل الانسحاب من المشهد الفكري تماما ؛ معللاً ذلك بأنه لا يوجد فضاء فكري يمكن التحرك فيه خاصة أن سياط التصنيف جاهزة ومن كل الاتجاهات. والراصد اليوم للمشهد الفكري سيلاحظ أن هناك شريحة ضخمة من طلبة العلم « المثقفين» مازالت معطلة ولم تقدم للساحة أي شيء مع قدرتها على أن تتسيد المشهد الفكري وتقود الشباب إلى حيث الأمان الفكري والولاء الوطني، كما أن بإمكانها سحب البساط من بعض الرموز القديمة وجعلها شيئاً من الماضي.
ولسائل يسأل: لماذا بقيت الرموز السابقة مؤثرة في العقل الفكري الجمعي للشباب؟ بل ذهبت هذه الرموز تعيد إنتاج نفسها عبر رموز جديدة تسير على نفس الخط !! والجواب ببساطة لأنه لا يوجد تيار فكري يمكن أن يقابل خطاب هؤلاء الرموز، إذ لا يوجد إلا تيار فكري واحد وهو التيار السلفي، وهذا غير قادر كما قلنا على التأثير لافتقاده لأهم أدوات الخطاب المؤثرة ، بل هو - بدون إرادة - يضيف إلى التيار الحركي الكثير من الأتباع الجدد.
وفي تقديري، أن هذه الشريحة وأعني الطبقة المعتدلة من طلبة العلم والمثقفين هي قادرة بإذن الله على القيام بهذا الدور، لكن لا بد لذلك من قيام الدولة بدعم هذه الشريحة وحمايتها، وذلك بمنحها الفضاء المناسب الذي يمكنها من التحرك بمرونة وحرية ، حتى تقود الشباب إلى حيث الأمان والاستقرار الفكري والولاء الوطني بإذن الله.
وأوكد هنا أن هذا الخطاب لا يمكن أن يستقل به فرد دون غيره، ولو فعل ذلك سيكون مجرد ورقة محترقة في ظل هذا الاصطفاف الفكري الرهيب، وإنما لا بد من تأسيس تيار كبير من طلبة العلم والدعاة والمثقفين يحملون هذا الخطاب ويتبنونه عبر المكونات المشار إليها، وترعاه الدولة وتمنحه، كما قلنا، الفضاء الجيد للحركة والحرية.
وهنا ألفت النظر إلى قضية مهمة سبق أن أشرت إليها في مقال سابق عن «ذرائع الإرهاب «وهي أنه في المشهد الفكري بدأت تظهر خطابات غالية جداً، وبدأت تخطف الكثير من الشباب والكثير من النخب أيضاً، والشريحة التي لم تقترب منه بدأ تتفهم دوافعه ومبرراته وأحياناً تبارك مشروعه بصمت! وهذا الخطاب لم يكن ليتمدد بهذه الطريقة الأفقية لولا وجود فراغ كبير في المشهد الفكري مما مكن له وبسهولة في كسب الأتباع، والساحة الفكرية - بوجود هذا الفراغ الكبير - مؤهلة لظهور خطابات وتيارات أخرى قد تكون أكثر خطورة، وبالمناسبة رأيت قبل أيام بعض الشباب الصغار في عمر طلاب المرحلة الثانوية يتبضعون في محل تجاري، وقد لبسوا تحت الشماغ «طاقية» من الصوف!! ويبدو لي أنها ترمز إلى «داعش» كما قرأت في بعض وسائل التواصل الاجتماعي، وإذا كانت كذلك فهي ليست طواقي وإنما هي قنابل مفخخة ستنفجر في بيوتنا إن لم نتدارك الأمر!
أخيراً: أعتقد أن ملء الساحة الفكرية بخطاب جديد يجمع المكونات المشار إليها يجب أن يكون استراتيجية وطنية وخياراً لا بد منه في هذه المرحلة الحساسة والصعبة.
هذا والله أسأل أن يحمي هذا البلد الكريم وأن يحفظ عليه قيادته وشعبه، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.