بعد انفجار الأزمة المالية في عام 2008، نادى كلٌ من الرئيس البريطاني والرئيس الفرنسي لإعادة التفكير بأساسيات النظام المالي العالمي.
وفي عام 2009 انضم رئيس البنك المركزي الصيني لهما بتوجيه الاتهام بعزوه الأزمة إلى عدم وجود عملة احتياط دولية حقيقية، ومقصود الثلاثة هو اتهام الدولار.
وقد أعاد هذا ذكريات معاهدة عام 1944م، حين اجتمعت 44 دولة المنتصرون في الحرب في منتجع برتن وود الأمريكي، ليضعوا حلاً لإيجاد عملة تبادل دولية لإعادة التجارة الدولية، بعد أن تعطل التبادل الدولي بسبب غياب الثقة عن العملات الورقية المرتبطة بالذهب.
وإلى صدور هذه الكتب الحديثة، لا يُعرف أكاديمياً ولا إعلامياً، كمهندس للمعاهدة ومبتكر لفكرتها وصائغ بنودها وتفصيلاتها، إلا نجم معاهدة برتن وود، البريطاني جون كينز مؤسس مدرسة الاقتصاد الحديث، والذي افتتح الجلسة الختامية للمؤتمر - بعد قيادته الظاهرية له - بالمصادقة عليها ومباركتها بخطابه التاريخي.
وتبعه بعد ذلك تصديق عظماء سياسيي واقتصاديي الأربع والأربعين دولة.
ولكن الذي ظهر حديثاً أن كينز والوفود الدولية المُصادقة على المعاهدة، لم تكن تدري شيئاً عن بنود المعاهدة، ولم تقرأها.
فقد استغفل ممثل الوفد الأمريكي المغمور هاري وايت عظماء السياسة والاقتصاد لأربعة وأربعين وفداً دولياً، ليصادقوا على ما لم يقرؤا وما لا يعرفوا.
وتعبير الاستغفال، هو التعبير المستخدم في الكتب التي نشرتها الجامعات الأمريكية العريقة حديثاً بعد الأزمة المالية لتفصح عن ما سكتت عنه السياسة، وتكشف ما دلسه الإعلام وتظهر ما أخفته نفوس العظماء من التعالي عن الاعتراف بالاستغفال لبعضهم ورضوخ بعضه الآخر للهيمنة الأمريكية. وإن كنت أعتقد أن البعض لم يُستغفل، فمكوّنات طبخة الاستغفال التفصيلية التي ذكرتها هذه الكتب الصادرة حديثاً، لا تخلو من شبهة توسيع خاطر البعض بالتوسعة عليهم في معيشتهم بوسائل مختلفة، لتسهيل عملية الاستغفال أو للصمت والتصديق والموافقة على المعاهدة، دون شوشرة.
وعلى الرغم من انسحاب السوفيت والدول الاشتراكية، وتأخر بعض الدول الأوروبية بالقبول إلا أن المعاهدة فرضت نفسها. فقد تم تتويج الدولار على عرش النظام المالي العالمي بالجلسة الختامية لمؤتمر برتن وود بمصادقة الوفود عليها، والمنسحب بعد ذلك أو المتردد فهو خارج على التاج، والتاج تحميه الهيمنة الأمريكية العلمية والاقتصادية والسياسية والعسكرية.
فمن انسحب أو تردد فهو خارج العالم الحر ولا قيمة لعملته دولياً ولا اعتبار له في التجارة الدولية.
وقد سبق المؤتمر اجتماعات كثيرة بين بريطانيا يمثلها الاقتصادي كينز، وبين أمريكا ممثلة بوزير المالية ومساعده للشؤون الخارجية هاري وايت.
فقد كانت المعركة بين بريطانيا وأمريكا. بريطانيا تريد الحفاظ على مكانتها الإمبراطورية، بالمشاركة في السيطرة على النظام النقدي العالمي، وأمريكا مصرة على إخراج بريطانيا تماماً من قمة الإمبراطورية، وإرضاخها بالتبعية.
وقد انحصرت معركة معاهدة برتن وود السياسية والاقتصادية، والمفاوضات التي سبقتها بين رجلين اثنين. هما اللورد البريطاني كينز الاقتصادي السياسي الدبلوماسي الشهير عالمياً الذي كان يقول « لا أحد يضع الجنيه البريطاني في الزاوية»، وبين الأمريكي هاري وايت المغمور الذي كان يواجه مصاعب إقناعية في مهمته هذه. مصاعب داخلية من الوزارة والوزير والمجموعة الأمريكية المشاركة ومن الكونجرس. ومصاعب خارجية دولية، حيث كان غير مرغوب به ولا يكترث بعلمه وقوله أحد على الساحة الدولية.
فقد كان هاري غير لبق سياسياً، شديد اللهجة حاد العبارة لا يبذل أي جهد لكسب القلوب، ولا يعير اهتماماً لأساليب المحادثات في العالم المتحضر. فمثلاً، في أحد النقاشات السابقة لمؤتمر برتن وود، عبّر كينز عن عدم فهمه المُقترح الأمريكي، فقال وزير المالية الأمريكي لكينز في محاولة لتهدئته «سنحاول .. ثم أُرتج على الوزير» فأكمل هاري مخاطباً كينز « أن نأتي بشيء يستطيع سموك فهمه».
وقد كان هاري يواجه صعوبات نفسية كذلك. فقد كان السياسيون والاقتصاديون في واشنطن يتجاهلون ذكر اسمه عند تبنّي آرائه واقتراحاته ولا ينسبونها له، إلاّ أنّ أحداً منهم لم يجرؤ على الاستهانة من شأنه وعدم الاعتراف بذكائه وعبقريته. كما كان هاري يواجه صعوبة عدم الأمان والخذلان من رئيسه، وزير المالية الذي كان يتعذر بالمرض تهرباً من مقابلة كينز خوفاً من مناقشته علمياً. وأما الكونجرس، فقد واجه هاري وأراءه والمعاهدة بمعارضة شديدة، واتهمها بأنها حيلة بريطانية لسرقة ذهب أمريكا.
هاري وايت، رجل مغمور - من أب يهودي فقير مهاجر - بدأ حياته متنقلاً بين أعمال بسيطة متنوعة ولم يستطع دخول الجامعة، ثم انخرط في الحرب كضابط عسكري، ثم تحول في الثلاثينات من عمره إلى دراسة الاقتصاد وحصل على الدكتوراه من جامعة هارفرد، ثم عمل أربع سنوات كأستاذ في عدد من الجامعات الأمريكية المغمورة، بعد أن رفضت تعيينه الجامعات المرموقة.
حتى استدعاه مسؤول في وزارة المالية لمساعدته في بحوث حول السياسية المالية والنقدية، فظهرت ألمعيته وذكاءه فعُين في منصب مساعد وزير المالية الأمريكي للشؤون الخارجية، حتى أصبح مُمثل الوفد الأمريكي في قمة برتن وود والصانع الحقيقي للنظام النقدي الحديث.
أما بريطانيا فقد رمت بأعظم اقتصادي وسياسي في ذلك الوقت، جون كينز، والذي راهن عليه البريطانيون في أحاديث اللوردات في مجالسهم الخاصة بقولهم: «إن كان عند الأمريكان أكياس المال فعندنا المخ والعلم والخبرة ويقصدون به كينز».
وقد كان بعض الوفود يكني كينز بالإله (والعياذ بالله)، وهو الذي تنسب إليه المدرسة الكنزية اليوم. وقد كان كينز نجم القمة والمتحدث الدائم فيها، وهو الذي يُنسب إليه إلى اليوم معاهدة برتن وود، وما نتج عنها من نظام الربط العالمي بالدولار والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. بينما الحقيقة التي أُخفيت وبدأت تظهر اليوم، أن نموذج كينز المقترح لم يُنفذ منه شيء والربط بالدولار والبنك والصندوق الدولي لم يأت كينز منه بأي شيء، بل لم يدر كينز عنها إلا بعد أيام من رجوعه لبريطانيا بعد قراءة الصحف وسماع ورؤية الإعلام الذي ضج باسمه تشريفاً وتكريماً له كمهندس هذه المعاهدة.
فقد قُدمت المعاهدة له - دون أن يقرأها - للتصديق عليها ومباركتها في جلسة التصديق الختامية بعد تغييبه عن جلسات طبخة الاستغفال باشتغاله في نموذجه المقترح المنسي، وبسبب مرضه أو إمراضه.
فقد كان كينز ضحية طبخة استغفال قد تم طبخها من ألفها إلى يائها على يد الأمريكي اليهودي هاري وايت الذي استخدم فنون تمرير الاتفاقيات والعقود باستغفال المفاوضين. هذه الفنون سنأتي عليها في مقالات لاحقة لنستفيد منها العبر والدروس، فكم من مغفل ومُستغفل وراضخ ومُوسع خاطره برضوة تناسب قدره وحاله وثمنه في عقود واتفاقيات داخلية وخارجية عطلت تقدم الأوطان والشعوب، قد طوى الزمان وما زال يطوي حقائقها بالصمت والجهل والفساد. والمقصود من هذا المقال وما يلحقه العبرة والفائدة، لا الحكم الاقتصادي للمعاهدة وتبعياتها.