عند نزول أي مسألة حادثة أو ظهور الحاجة لمُراجعة استنباط فتوى قديمة قد ظهر خطؤها وبان ضررها على دين المسلمين ودنياهم، يُقابل هذا الواجب الشرعي والأُممي بالصمت من فقهاء المسلمين ومن يُحسب عليهم، متعذرين بأن لا كبير لهم اليوم. ويقصدون بالكبير، رجل منهم يتحمل مسئولية البيان والتوضيح، ويصبر على تبعية ما سيلحقه من أذى السفهاء وحسد الأقران. فيكتفون بهذا العذر -ولا عُذر بل ذنب- لإرضاء أمانتهم الدينية، ويخلدون بعدها للدعة والسكون في رحاب فقه التقليد أو تحت ظلال الصمت والتجاهل، أو يوهمون أنفسهم بجدل عقيم في أمور سكت عنها الوحي فعفا عنها، أو يتأولون الورع في تحريم ما لم يحرمه الله ورسوله. مضيفين إلى ذلك، السكوت عن كل ما يدور حولهم ممن يخوض بحق أو باطل في أمانتهم الشرعية التي تحملوها وانتسبوا لها، في انتظار هذا الكبير. رغم أن هذه الأمانة التي قد ارتضوا حملها، إنما تحملوها بدعوى منهم وباختيارهم ولم تُفرض عليهم. وهي أمانة عظيمة، ليس فقط لكونها شرعية، بل لأمرهم الناس بتسليمها لهم، ونهيهم الناس عن التفكر في المسائل الُمستجدة أو الأقوال الخاطئة التي تستلزم البيان والتعليم والتصحيح بالحق.
فالورع والفقه هو فقه النصوص على القواعد الأصولية التي لا تخفى عن كل ذي عقل سليم لم يصدأ بحجة.. {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ}، وبعقل لم يزل بالتألي على الله فيُحلل ويُحرم بالرأي والهوى وحيل الصبيان. فالتقليد ليس بفقه. وفقه هذا حلال وهذا حرام دون تأصيل شرعي ليس بُحجة على التقليد. وفقه الحيل ليس بفقه بل هو استهزاء بالدين واستخفاف بالرحمن. ومن استخف بالرحمن مُخادعاً له كالصبيان استخف الناس به وبمذهبه وعدوا من سكت عنه من أنداده من زمرة الصبيان والغِلمان والمسترزقة. وفقه الرأي وما يُزعم من مصالح مرسلة ومقاصد شرعية وسد ذرائع هي وسائل مُتاحة لكل أحد، وحجة مُشاعة بين الراعي والغنم والذئب. أكثرهم فرصة بها وأوفرهم لهم حظاً، من قَوي نابه أو لَطُف زعمه أو حَسُن لسانه.
وفتن اليوم حالها كحال دنيا الناس اليوم، قد اختلفت وتبدلت، بل وكثير منها قد انعكس حالها. ففتن الأمس التي يستشهد بها اليوم ذئاب السياسة ومعتوهو الديانة ومُحتالو الشريعة وشِرار الأمة ومن تبعهم من قطاع الطرق والشُذاذ والبسطاء من بُلهاء المسلمين، هي حُجَجُ مُصلحي الأمس من الأئمة الفقهاء. كما أن حُجَج غيرهم ممن يُخالفهم من الفقهاء اليوم، هي كذلك حُجج نفس مصلحي الأمس من الأئمة الفقهاء.
فكلا الطرفين لم يأت بجديد فِهماً وتأصيلاً، كما لم يُفهم القديم. فالأمس القديم عاثت به الفتن من خوارج وأضرابهم من الذين خرجوا على ولاة الأمور، كما عاثت به فتن فاستحل أمراء سوء وخلفاء فجرة مكة والمدينة والكعبة وأعراض الناس ودماءهم. فوقف مُصلِحو الأمة من فقهاء السلف لكلا الطرفين بالحجة المستنبطة من الوحي بما يناسب حال كل من الفريقين. وجاء اليوم يؤخذ من القول للإمام نفسه كلا الفريقين فتوضع مرة هنا ومرة هناك، في جدل عقيم حول مُراد الإمام الفقيه وقصده! فأين الفقهاء اليوم عن نص الوحي واستنباط مُراد الشارع سبحانه؟ فلو دفعوا عن أنفسهم الكسل وتخلوا عن محاربة التأصيل دفاعاً عن القديم أو عن الهوى وأعملوا النظر من جديد في الأدلة الشرعية، لما كان لذئاب السياسية وشِرار الأرض ومعتوهي الديانة وخُداع الحيل من حجة يخادعون بها البسطاء البلهاء من المسلمين. فكما يحتج الفقهاء بقول وفهم إمام، فالشُذاذ كذلك يحتجون بقول وفهم الإمام نفسه.
فما فائدة الفقهاء في مجتمعات الأمة اليوم وقد تساووا في حفظهم هم وهؤلاء الشُذاذ من شِرار الأرض. فعلم الشرع اليوم في الأمة كلها لا يزيد عن تلقين قول لفلان عن تلقين قول فلان، وتلقين عن تلقين، فكم من شاذ الفكر ومعتوه الفهم يُلقن بكراً فيسمعها عروة ويحفظها زيداً ويفهمها عمراً ثم ينادي بشوق وحرقة وإسلاماه، فتتلقاه ذئاب السياسة وشِرار الأرض فتَسبِكه خنجراً يغرزون به ظهر الأمة أو يصقلونه سهماً يرمون به أهله وقومه.
بل وإسلاماه، على من أدخل فكر البابوية على الفقهاء؟ فلا يُصدح بحق ولا يُبين علم ولا يُصحح ضلال ولا يُنشر تصحيح ولا يُقر علانية بتجديد إلا أن يأتي كبير!!! وما من كبير اليوم؟ فأين عالمُ الغيبِ والشهادةِ الكبيرِ المتعال؟ أورع بارد بصمت عن الحق كورع أهل الصوامع والبِيَع؟ لا، بل هو والله كسلٌ حيناً وعجزٌ حيناً أخرى عن النظر في نصوص الوحي والاستنباط منها بميزان عقل واحد لا يختلف. وليس كما هو الحال اليوم بميزانين، كل منهما مختلف في نفسه ومختلف عن الثاني.
إن فتن الدين والدنيا اليوم وإن كان ظاهرها كفتن الدين والدنيا بالأمس إلا أن وسائل إخمادها والقضاء عليها لا تصلح بوسائل الأمس الفاشلة. ففتن المسلمين لم تنته إلى اليوم، أفلا يدل هذا على فشلها، كما يدل الخلق على الخالق. ووسائل اليوم قائمة على الحجة القوية استدلالاً والمنضبطة مرجعاً، لا على قول ورأي فلان. ولا على رؤيا وحُلمٍ وحيلة ساذجة. وقد أتم الله لنا دينه وتركنا رسوله على المحجة البيضاء وضرب لنا خلفاؤه الراشدون وصحابته أروع الأمثلة في الفهم التطبيقي للنصوص، وقد خلق الله لعباده أفهاماً وعقولاً لم تعجز عن تسخير وفهم كثير من سننه الكونية في خلقه وفي أرضه وفضاء سمائه، فكيف تعجز أمة محمد عن فهم نصوص دينه الذي ارتضاه لأمة أمية.
فالله الله لا تأتي أمتنا اليوم ربها بدماء وفتن وانتهاك أعراض وضياع أيتام وأرامل وفقر ومذلة المسلمين قد أضاعها كسل فقهائها عن النظر والاستنباط في نصوص الوحي فصمتوا عن البيان وعن الدفاع عن الدين الذي ارتضى لهم بترك أمة محمد مُجهلة يتقاذفها ذئاب السياسة وشرار الأرض وخُداع الأمة بالحيل والكذب.
إن أمة الإسلام اليوم هي لفي أشد حاجتها لفقهاء صدق وذكاء حجة في الحق. فجهل الناس بدينهم وعاطفتهم الدينية قد غرر بها وبأبنائها، وترك الأمانة كاملة في رقاب من ارتضى لنفسه مسمى الفقيه.