أصل معنى الخلافة هو التعاقب في تحمل مسؤولية القيام بمهمة ما. والقرآن والسنة أتيا بهذا المعنى في مواضع عدة. فالخلافة وصف عام لا يختص بالولاية العامة، فالفرد من البشر خليفة.
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (30) سورة البقرة. وقال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} (165) سورة الأنعام. والخلافة قد تُخصص فيمن يَخلُف الرجل في أهله، وقد تُوسع فتخصص بالملك والإمارة. وقد خلف داودُ طالوتَ على منصب مَلِك بني إسرائيل، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} (247) سورة البقرة، ثم قال: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} (251) سورة البقرة، ثم وصف سبحانه المُلك بالخلافة فقال: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (26) سورة ص، ثم جعل سبحانه خلافة المُلك في أبنائه فقال: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} (16) سورة النمل، وقال: {فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا} (54) سورة النساء.
وقد سمى عليه السلام الخلافة والملك بالسياسة وسمى عملية التعاقب بالخلافة. ففي صحيح مسلم «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي». والأحاديث الواردة عن الرسول عليه السلام فيها وصف الولاية أحيانا بالخلافة وأحياناً بالإمارة وأحياناً بالمُلك. وسماها الفاروق بالإمارة عندما نودي بخَلِيفَةُ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّه.
فمُسمى خليفة أو ملك أو أمير أو إمام ليس له أي مُتعلق شرعي بجواز أو عدمه، ولا بدنو مرتبة مسمى عن مسمى آخر. فقد وُصف الأنبياء بالملك وكانوا ملوكاً. ونودي الصديق بخليفة رسول الله فكان خليفة الرسول حقاً، ونودي الفاروق بأمير المؤمنين، فكان أمير المؤمنين حقاً، رضي الله عنهما.
والذي له متعلق شرعي وعليه تدور الآيات والأحاديث وأقوال أئمة الفقه هو أي اسم أو صفة تدل على معنى الولاية العامة.
والولاية العامة هي اجتماع مسؤوليات الدولة، الداخلية والخارجية، بيد شخص واحد، ويكون بيده القرار النهائي النافذ، رضي الناس به أو سخطوا. فكم سخط بعض من كبار صحابة رسول الله على قرارات الفاروق ولم يرضوا بها، ولكنهم لم يتجرؤا عليه، فاعتز حال المسلمين جميعاً ورهبتهم الأعداء في الخارج والداخل. فلما تُجرئ على ذي النورين أمير المؤمنين عثمان وتُجُمهِر عليه، لسخط على قرارات اتخذها، استخف أعداء الأمة بها، فاستخفوا سفهائءها، فوضع الله السيف بين أصحاب رسول الله بعضهم ببعض، وبين المسلمين من بعدهم بعضهم ببعض إلى اليوم.
والأحاديث النبوية ليس فيها حديث واحد يدل على وجوب تعيين خليفة أو حاكماً واحداً لجميع المسلمين. فكل الأحاديث الواردة عنه عليه السلام أحاديث عامة في وجوب طاعة من تولى أمر الولاية العامة وفي وجوب توفر شخص واحد معين مسؤول عن القيام بالولاية العامة في المجتمع الإسلامي. فلو تعددت مجتمعات المسلمين فتعددت الولايات العامة فيها وقام بها من غلب عليها، فليس في الأحاديث أي إشارة لكراهة تعدد الولايات العامة، فضلا ًعلى أن يكون فيها دليل على حرمتها أو وجوب قيام خلافة واحدة.
فالله عالم بانتشار دينه واستحالة اجتماع عباده، وهذا -اي تعدد الخلفاء في زمن واحد- قد حصل ونصف القرن الأول المفضل لم ينقض، وهو خير القرون قاطبة. ولذا فالأحاديث حسب الفهم الصحيح تدل على تعدد الولايات العامة. فقد دلت الأحاديث على وجوب تعلق بيعة في عنق كل فرد من أفراد أي مجتمع مسلم، لأي شخص يتولى مسئولية الولاية العامة، باختيار أو بغلبة. وذلك لما رواه مسلم عنه عليه السلام «قال: اسمع وأطع وإن كان عبدا حبشيا مُجَدَّع الأطراف» والحديث عام يشمل اي ولاية أمر، سواء أعلت وارتفعت إلى الخلافة أو دنت إلى مستوى عريف في سرية غازية.
وسياق التمثيل فيه شاهد على غلبة الحكم كرها، عن غير رضى من الناس. وواقع الصحابة ومن بعدهم يشهد على هذا، ومنه رفض عبد الله بن عمر مبايعة عبد الله بن الزبير، لا حبا ليزيد بل لحرصه على عدم نقض البيعة، حيث إنه لم يكن واثقا من ثبوت واستمرارية خلافة بن الزبير. فقد أكد الشرع في التغليظ في عقوبة النكث بالبيعة أو نقضها. فقد روى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر».
ورسول الله لا ينطق عن الهوى، فلم يكن عبثاً تنكيره للفظ الإمام، إلا ليشمل كل من تولى الولاية العامة لدارٍ من ديار المسلمين.
وما كان ليغيب عن علم الله ما هو الأصلح لعباده وما سيؤول إليه الحال من تعدد الأئمة ممن تولوا الولاية العامة على بعض ديار المسلمين. وهو الحال الذي آلت إليه الأمة، ولم ينتصف قرنها الأول بعد.
وفي مسلم كذلك «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية». والمواطنة اليوم للدولة والانتساب لجنسيتها هي البيعة. فالأصل إن كل من سكن الديار وانتسب إليها فهو قد أعطي البيعة، إلا أن يصرح بخلافها، كما كان أصحاب رسول الله يصرحون بعدم بيعتهم في حال غلبة من لا يرضونه أميراً عليهم، وقد أُجبر بعضهم على البيعة فالتزم بها. وفي مقال السبت مزيد عن حقائق الخلافة المسكوت عنها.