نجوى عليوة (49 عاماً) تهوى صناعة الكعك، وكانت تحضِّر للاحتفال بعيد الفطر مع عائلتها بصناعة كميات كبيرة منه كأهم الطقوس التي اعتادت عليها مع حلول هذه المناسبة، لكن العدوان الإسرائيلي أفشل مخططاتها،
بعد أن أفقدها منزلها.. تقول نجوى بعد تنهيدة طويلة:
«كنت أتمنى أن أحتفل بالعيد مع عائلتي، فدائماً ما نتجمع قبل يوم واحد لصناعة الكعك، لكن هذه المرة تجمعت مع النازحين في مدرسة الإيواء.. رغم القتل والدمار والتشريد سنحتفل بالعيد، وسيفرح أولادنا بأجوائه الجميلة».
وإلى جانبها نسرين شاهين (37 عاماً) تخبز قطع الكعك بعد إتمام حشوها، وتقول إنها تُحاول أن تُنسي نفسها ما حل بأسرتها التي هدم مأواها وشردت من حي الشجاعية الذي دمرت فيه مناطق واسعة بفعل الضربات الجوية والقصف المدفعي الإسرائيلي. أما العشرينية زينات أبو عَصْر (25 عاماً)، التي حاولت رسم الابتسامة على وجهها خلال حديثها لمراسلة «الأناضول»، فتقول «أشعر بسعادة كبيرة هنا.. رغم النكبة التي حلت بهؤلاء النازحين إلا أن هناك تعاوناً كبيراً بينهم».. وتضيف وقد زادت ابتسامتها اتساعاً: «أحاول أن أرفّه عن نفسي برفقة النساء.. أشعر أنني في بيتي.. وسأحتفل بالعيد، وأفرح».(عربي 21).
تلك ذروة من ذرى الشجاعة النفسية والروح المعنوية الشامخة، ويبدو أن مسمى حي الشجاعية لم يأت عبثاً! ويبدو أن تكبد الجيش الصهيوني خسائر غير متوقعة أعطى جرعة فرح طيبة للعيد رغم اتساع الجرح الفلسطيني. هي أيضاً رسالة تحد معنوية بأن الفلسطينيين يمكنهم الاستمرار في المواجهة لأن لديهم القدرة على الفرح.. وغني عن القول التذكير مدى أهمية الحالة النفسية والروح المعنوية أثناء المقاومة..
لكل مقام مقال كما تقول العرب.. ونحن في مقام العيد، أي الفرح والحبور والتعالي على الجراح والمآسي.. أو كما صدح الشاعر الفلسطيني محمود درويش في ظل المجابهة الفدائية للعدو «ونحن نحبُّ الحياة ما استطعنا إليها سبيلاً». الحياة واسعة متنوعة جميلة وقبيحة.. عادلة وظالمة.. سعيدة وتعيسة..إلخ؛ ولكن في العيد الناس تحب الفرح وتبتعد عن الأحزان ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً!
لا تسمح لعدوك أن يمنعك من الفرح والسعادة، فإذا تمكن الخصم من القضاء على حالة الفرح في داخلك يكون قد استحكم حالة الصراع معك، وأصبحتَ رهينة لمناوراته.. وإذا حصرت نفسك في الهموم والمآسي تغدو فريسة لها. بهجة العيد هي مجابهة روحية للخصوم ودعم معنوي للمواجهة..
ما يعكر صفو أعيادنا عموماً هم أولئك الذين صدَّعوا رؤوسنا ببيت المتنبي «عيد بأية حال..» وينسى هؤلاء أن حزن المتنبي كان ذاتياً وخاصاً وليس استرجاعاً لهمٍّ عام معروف لا جديد فيه، فهو يتحدث عن حاله المشردة والمنكوبة أثناء هربه من كافور الأخشيدي، بينما الناس كانوا منغمسين في فرحة العيد. وهو وغيره له الحق كل الحق بالتذمر والشكوى الفردية، لأنه وحده مطارد وغير قادر على الفرح لحظتها..
منذ عقود تزدهر في الثقافة العربية حالة الحزن والعزاء في الأعياد ينشرها بيننا أدباء ودعاة ومشايخ وكتاب ومثقفون.. نكدوا علينا أفراحنا حتى في الأعراس والاحتفالات حولوها إلى بؤس ونكد.. أنا أسميهم على سبيل المداعبة «حزب النكديين».. يقال في العامية رجل نكدي وهو الذي لديه مهارة في إشاعة ضيقة الصدر والهموم والتنغيص أوقات السعادة؛ وهو ليس بعيداً عن معناه في اللغة الفصيحة: رجل نكد أي شُؤْمٌ عَسِرٌ، وما أكثرهم بيننا.. مناحة مكررة كل عيد تعكر صفو الأفراح حتى في الأعياد التي لا تشوبها أحداث مؤلمة مباشرة فتسمع النواح حولك: بلاد العرب تمر بسلسلة هزائم وخيبات فكيف تبتهجون.. وهكذا دواليك مناحة طويلة مكررة..
ويتفنن البعض في سرد قائمة بالخيبات والهزائم العربية.. ويبدع آخرون بكتابة قصائد لا ترى في العيد غير مأساة أطفال يُتَّم ومبان تهدم وأرض مغتصبة! هل يظن أولئك أنا نجهل هذه القضايا العامة؟ إن كان لك حزن خاص لا نعرفه فهذا حقك أن تعبر عنه في العيد، أما أن تنتحب في العيد على قضايا عامة نعرفها جميعاً ولا جديد فيها ولا خصوصية لك بها، فهذا تشويه لمقاصد العيد.
للعيد معنى إنساني وفلسفة للفرح تنطلق من مناسبة حيوية مهمة تشعر الجماعة أو الأمة بوحدتها وقوتها المادية أو الروحية.. فأنت لا تجد أمةً من الأمم إلا ولها أعيادها. فالاحتفال بالأعياد من الأمور الغريزية لدى الجماعات، بغض النظر عن المآسي التي تمر بها. وكما كتب مصطفى عاشور: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب ويرغب في أن يظهر المسلمون السرور والبشر والسعادة وممارسة بعض الألعاب الترفيهية والإنشاد والغناء في ذلك اليوم كما نصت الروايات الصحيحة في البخاري..»
لا شك أن قضايا وطننا العربي وعلى رأسها فلسطين تستحق منا الكثير، لكن عندما تنظر للعالم الفسيح من خلال عاطفة الهموم العامة فأنت مرتهن لهذه العاطفة بصحيحها وعليلها.. العالم ليس ثقباً ضيقاً ينحصر في الهموم العامة.. العالم فسيح ومتنوع ومعقَّد.. والعالم ليس سياسة فقط.. والسياسة ليست فلسطين فقط.. وفلسطين ليست حدوداً جغرافية فقط.. إنها بشر وحضارة رائعة متنوعة مليئة بالجمال أيضاً.. فمن هذا الجمال ترنم للعشق والحبِّ.. افرح بالعيد واصدح بالأهازيج، ولا تكثر من البكاء كي لا يفرح الأعداء.. شارك الفلسطينيين والعراقيين والسوريين أعيادهم.. شاركهم حب الحياة والمرح كي تساندهم.. افتح النوافذ في الجهات الأربعة.. افتح نافذة أوسع كي ترى الحياة كما ينبغي لها أن تُرى!
إن أفضل هدية نقدمها إلى أعدائنا وأمراضنا وتخلفنا هو أن نُكبَّ على الأحزان فلا نعرف غيرها، فننهزم من الداخل! وأقسى أنواع الغزو هو الداخلي في النفس. وغاية ما يحققه الغزاة المحتلون، أن ننطوي على أحزاننا ونغلق النوافذ عن مباهج الحياة فينتصرون علينا من داخل ذواتنا..
لقد أدركت ذلك النساء الفلسطينيات بالفطرة أو بالوعي أمثال نجوى ونسرين وزينات اللواتي احتفلن بكعك العيد ورسمن البسمة في الوجوه الباكية وغرسن السعادة في النفوس الحزينة.. في ليلة العيد قال حاتم غيث مدير لجنة شعبية مسؤولة عن مركز إيواء في غزة: «ستقيم اللجنة سلسلة فعاليات ترفيهية ستبدأ صباح أول أيام عيد الفطر، لإدخال البسمة والفرح على الأطفال النازحين..»